Culture Magazine Monday  07/01/2008 G Issue 228
فضاءات
الأثنين 29 ,ذو الحجة 1428   العدد  228
 

افتراض العبث!
عن (سيرته الافتراضية)
حامد بن عقيل

 

 

... وهكذا، حين حدّثني عن التي جالسها في أحد مقاهي جدّة، وعن كيفية إمساكه يديها قبل أن يسرد لها طفولة كانت، وطفولة لم تكن، هزائم وانتصارات ووجوه شتّى، انتفضتْ مريم في ذاكرتي.

بداية، اتفقتُ مع أمواج الريبة من حولي على توصيف لهذه الفتاة لا يؤذيها: كانت مريم عالماً افتراضياً ابتلعه الشمال، وكنتُ عالماً من واقع مُثقل بالحنين والخطايا والاعترافات الكثيرة. كان يستمر في حديثه كلما غرقتُ في صمتي: الصمتُ كل شيء ولا شيء في آن، وهو (كلام كثير). لذا، وجدتُ أن مريم لم تكن إلا عبوراً نقيّاً لذاكرة أشبه بقصاصات ورق ملوّن طارت في الهواء واختلطت حدّ أن شعرتُ بالوجع. فبدأتُ أفكرُ في طريقة مناسبة لاختزال وجعي، للقول دون أن أكون سبباً في إيذاء أحد أو في إيذاء القروي في داخلي.

قلتُ يومها لحامد بن عقيل: (أنتَ راعٍ يدمن صباحاته القديمة ويخلطها برائحة قهوة جدته الحنون، علمتك أن تهش على غنمك بالأغاني بدلاً من العصيِّ، وأن تتواطأ مع شموس النهارات الحارقة على أن تؤثث الظل بالقصص الغريبة والأشعار المشوشة عن عبث لا تدري ما هو، ولا تدركُ إلى أين يأخذك). ورأيتُ أنه يريد الاعتراف أكثر، وأن يتحرر أكثر، وأن يغامر ببناء ذاكرته من جديد، ولكن بطريقة مراوغة، ربما كانت لا تعني شيئاً سوى الفن!

إلى هذا الحد، لم أكن قد تورطتُ في الكتابة، لكنني تورطتُ في الفكرة: (رجل مجهول في زمن جاهل بذاكرة تدفن أوجاعها على قارعة التقويم كل عامٍ وتمضي)، لم أدرك أنني بهذا أحاول درء ما هو أكثر من مجرد تعريف لسفرٍ طويل مع اللغة ولأحلام والوصول إلى نقطة مجهولة لم أصلها، ولا يبدو أنني سوف أصل إليها، رغم يقيني بمعرفتها.

في زمن لاحق، لم يأتِ بعد، ربما اجتمع اثنان حول شجرة تنهض، بكامل دورة حياتها، من الأرض في ساعة واحدة من نهار وتساءلا: (ذاكرة الإنسان هي ما يُغرق الأشياء في عاديتها، يوجعها بالسائد، بالتصورات والأفكار المسبقة. ذاكرة الإنسان هي ما يمنع جبلاً من الرقص أو طائراً من تقليد لوحة الطائر لرفيق شرف!). جملة ممتلئة بالدهشة التي تتساءل عن جناية ذاكرتنا على التاريخ حتّى. هذا ما يفزعني اليوم، ما أفزعني بالأمسِ ودفعني للتخفف من التفاصيل المرهِقة واستبدالها بافتراض بسيط: لغتي هي كل ما سأقدمه لغدي، لذا لا بد من عجنها جيدا بذاكرتي كي يأتي زمني القادمُ أشبه بموال تسكبه السماء على مسامع القانتين فيرتجفون خشوعاً، وما أقلهم في عالمنا العربي.

***

في مساء أحد الأيام كتبتُ: (أشعر أنني مشوّه من داخلي، الفنان مشوّه دائماً. زوايا حادة تفصل الواقع عن المُطلق، والمطلق هو: الجمال - الانعتاق - الرغبة في النفاذ إلى أصل الأشياء والتوحّد بها).

هل كان هذا حقيقاً؟. أعني شعوري بالهوّة التي تفصلني عن قدرتي الحقيقية على التحليق الكامن في أنفاسي كلما تطلّعتُ إلى السماء وهجستُ باللغة الكثيفة كأغصان الأشجار في غابة استوائية:

(هل شممتِ دمَ الياسمين المشاع؟

وفكَّرتِ بي؟

وانتظرتِ معي طائرا أخضرَ الذيلِ لا اسم له؟)...

بعد خطابي الدرويشي الساخن لها، سمعتها تهمس لرفيقتها:

(دعكِ منه، إنه مجنون)....

هذه جناية أخرى لذاكرة تفيض برزاياها!

فمن يمنعني من التقدُّم سوى ذاكرتي؟!.

ربما هكذا أردتُ تعريف السيرة حينها، أو ربما هو ما كتبته، أيضاً، في (مسيح):

(السيرة ليست عملاً مجّانياً يغتصب خصوصية الفرد بقدر ما هي مساقط ضوء تنعش الذاكرة).

***

مسيح، كان تجربة قول كل شيء بلا حدود، وبلا خرائط دالة على وجهة معينة. ربما لأنني لم أتوقع أن أتخطى الثلاثين من عمري، كنتُ كمريض على فراش الموت لا يخاف اعترافاته الأخيرة، ومن شاركني البوح في ذلك الكتاب كان كمن يروي معي حكاياته كي يجعل ليلتي الأخيرة مضيئة بالأمل. إلا أنني لم أكن أعترف قدر ما كنتُ أراوغ، من يدري، لعلها ليست الليلة الأخيرة، لعلي سأصل السبعين من عمري، وربما أكثر. الأشقياء لا يموتون في وقتٍ مبكّر، هكذا فكرتْ.

حين انتقد بعض من كتب عن مسيح إدراجي لطرفة متداولة ومعروفة كجزء من سيرة افتراضية جعلني أتأمل شكل مجيئها هناك: (الكرة الغريبة التي ارتطمت بوعيي في مرحلة ما من شبابي وكانت مؤلمة، حين كبرتُ وجدتُ أنها الأنسب للّعب في دائرة يسمونها دائرة الحب!؛ مغلقة وغريبة، فريدة، وفيها يجب أن تتكامل الأدوار حتى تصل إلى الاحتراق والذبول. لم أسمع بتجربة حبّ لم تذبل، ولا أريد الاستمرار داخل دائرة تحترق بلا نهاية!).

***

في سبينوزا، كنتُ أجد أن اختبار بلاهاتي هو المنعطف الحاد الذي يجب أن أجرّبه، وأن أثري قلبي بخسائره. كانت الخسائر كثيرة، لعلها بدأتْ ب (جميلة)، لم أبكِ يومَ وفاتها، انشغلتُ بمتابعة أمي الصامتة وهي تؤدي أدوارها، حتى عندما سمعتُ نحيبها المكتوم في الليلة التالية لرحيل (جميلة) كنتُ أنشغل بتتبّع نجمة أملاً في أن تهوي إلى الأرض، تشق فضاء قريتنا معلنة أن روحاً طاهرةً قد صعدت إلى الأعلى، وأن ثمَّة ما يحدث في السماء لاستقبالها.

كتبتُ عن بلاهاتي الكبرى، والصغرى، وعن بلاهة الغياب. نعم، بلاهة الغياب التي صارت ترافقني عند كل موت، فأبحث عن نجمة تشق فضاء المكان الذي أطوف فيه ليلتي التالية!. أتذكر: بعد (جميلة) بأسبوع ماتت (عائشة)، ثم استمر الموت، ولم أر نجمة تسقط حتى اليوم. قلتُ لنفسي: سأبكي ميّتاً، ولو كان غريباً عنّي، حالما تسقط نجمة أمامي!

***

الأمر الأشدّ غرابة أن تتورط في أمر كهذا دون سبب معروف!. فقط، كان يحدثني عن صديقته فجاءتْ مريم كي تبعثرني!. ليس معقولاً، لكنه ما حدث بالفعل. بدأتُ التورط فعلاً: (سيرة)، ثم تطورت الكتابة إلى ما يشبه الصّعلكة على أرصفة موانئ خطيرة هي كل أمل للمقامر في سبيل الإبحار إلى العالم الجديد وطرق أبوابه. هكذا، بعد كتابين من (سيرة افتراضية)، وثالث لم أقرر نشره حتى الآن، بدأتُ البحث عن مبرر. ليقل حامد بن عقيل:

(أردتُ أن أقول لأطفالي: ابحثوا عن سعادتكم، ولا تخافوا الوقت لأنه سيجري كالنهر إلى مصباته المحتومة مهما شئتم!)، لكنني أقول: إنه يريد ترتيب أماكنه منذ المرعى وحتى قاعة إلقاء شِعر، ومنذ كتاب المدرسة حتى كتاب الأثر الذي بقي في داخله مترسّباً من كلّ كتاب مرّ به، ومنذ وجه جدته حتى ابتسامة آخر امرأة نظرت إلى شاشة مواعيد إقلاع الرحلات المغادرة في أحد المطارات فظن أنها تتأمله، ومنذ أول حرف بعثرته مريم حتى آخر حنين اقترفه أمام الله والناس والأشياء دون وجل!

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة