Culture Magazine Monday  07/07/2008 G Issue 254
عدد خاص
الأثنين 4 ,رجب 1429   العدد  254
 

تحت ظل الشجرة العتيقة
علي الهويريني *

 

 

الشجرة العتيقة ظلت واقفة بشموخها تتحدى الجفاف المزمن الذي يحيط بذلك الوادي الميت الحي، تمد جذورها إلى عمقه، تستجدي الندى من عمقه اليبس لتزيد ظلها الباهت الذي كان يوماً وارفاً يؤمه المتأملون الذين أعيتهم طرق البوح واعتراهم فقدان الذاكرة. أحن إلى تلك الشجرة، أحج إليها حينما يعييني المقال، أسند ظهري إلى جذعها الحنون. آه منه ذلك الجذع إنه حضن أمّ استطيع أن أبوح له بكل شيء، يستمع إليّ فلا يقاطعني، أشكو أبكي أحزن أفرح، إنه قيثارة أتنفس من خلالها، أتفيأ ظلالها والشمس تصب حممها على البقية مما ترك الربيع في فروعها، مددت يدي أتحسس جذورها، وأغمضت جفني نصف إغماضة أرقب ذلك السراب الذي ينبع من عمق الوادي والرمال تتغلغل فيه كالأفاعي العطشى وكأنها تحاول الوصول إلى ذلك النبع الذي يحسبه الظمآن ماء، بحر من اللالون يغالطك في التقدير بين الشك واليقين وبين الحقيقة والخيال، تأخذني أمواجه على سفينة ربانها غول الخيال إلى عمق التاريخ فتعبر بي مدينة إرم وأرى عاداً عند أطرافها يلطم خده عند أعجاز أعمدتها الذهبية المحطمة وتقفل السفينة راجعة فأرى بلقيس سبأ وهي تحثو التراب على رأسها وتنكش شعرها الأشيب تبكي عرشها المفقود وخيل أولي القوة حولها يضربون كفاً بكف ليستطيعوا حيلة ولا يهتدون سبيلاً، وتعبر السفينة شاطئ الذكريات وتتراءى لي الصور اللاإطار لها التي تتلاشى مع كل زفرة حزن توقظني من عالم الخيال.

صورة واحدة فقط رأيتها لها إطار يحدد معالمها، توسلت إلى رباني الغول أن يهدأ قليلاً ويطوي أشرعته كي أتأملها، فأنا أعرفها أنها من عالمي الحديث كيف جاءت في خضم هذا البعد؟ تقترب الصورة أكثر.. استيقنتها، إنها قريبة مني أكاد ألامسها.. لم أرها منذ خمس سنين ولكنني أستطيع قراءة ملامحها.. هادئة تحدثك وهي صامتة عن يُتم الفكر في عالم الثقافة الهوجاء كما يتحدث اليُتم في وجوه القطط.

آه ماذا أقول عن تلك الصورة، فشهادة الوليد في حاضنته مجروحة، وشهادة الحواريّ في معلمه مجروحة، وشهادتي في صاحب تلك الصورة مجروحة. إنه معلمي بعد الله.. إنه الذي تعلمت منه الفرق بين الفكر والثقافة.. علمني أن العقل الذي يحمل ثقافة لا تلد فكراً هو عقل ناقل كمثل الحمار يحمل أسفاراً.. علمني أن السمكة ليست مجرد مخلوق يسبح الماء.. وأن النجمة ليست مجرد جرم يلمع في السماء.. وأن الشجرة ليست مجرد عود يحمل أغصاناً وكأن لسان حاله يقول: انهض انهض، اترك كتبك أو يحدودب ظهرك، فالكتب عناءٌ لا يترتبْ، اخرج.. اطلق بصرك اقرأ في قلم الله الأسمى ثمة شمسٌ تشرق من خلف الأكمهْ ترسل نسمهْ تولد زهرهْ، ألوان تائهة تتورد بالطيب تقرأها حشره فاقرأها.. كُتبتْ للبيب............ غصن يرقص طرباً والغصن رطيب......

طير غرد يلقي حكمه كم بالغة كانت حكمه لعمرك ابلغ من ألف خطيبْ.

إنه الأستاذ الكبير والمفكر الدكتور مصطفى محمود الذي فقد الذاكرة وطوته عوالم الثقافة التي فقدت كل شيء....

فيا ترى من الذي فقد الذاكرة؟

* ممثل ومخرج مسرحي - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة