Culture Magazine Monday  10/03/2008 G Issue 238
فضاءات
الأثنين 2 ,ربيع الاول 1429   العدد  238
 

تقول الحكاية...
د. شهلا العجيلي

 

 

حملتُ القصّة التي انتقيتها لطفلتي من مكتبة المنزل، وتوجّهت إليها في السرير، لأقرأ لها قبل أن تنام، فبادرتني ذات السنوات التي لم تبلغ الأربع: (لا تقرأي لي قصّة، بل أحكي لي حكاية!) أدهشني هذا التمييز العفويّ بين فعلي القراءة والحكي، وبين مصطلحي القصّة والحكاية، وكأنّ هذه الصغيرة واحدة من المشتغلين في حقل الشكلانيّة أو في علم السرد! قد يكون تمييزها هذا مكتسباً من ممارستنا اليوميّة: نقرأ القصّة، ونحكي الحكاية، ومع ذلك أعادتني هذه الإشارة إلى التمييز مجدداً بينهما، إذ إنّنا حينما نغلق الكتاب ونحكي، ننتج حكاية، فالقصّة مكتوبة، والحكاية مرويّة بالمشافهة، و يمكن القول إنّ مرجعيّة القصّة فرديّة، إذ لها مؤلّف معروف، في حين مرجعيّة الحكاية جماعيّة إذ إنّ راويها مجهول، أو رواتها مجهولون، كما أنّ مشروعيّة الحكاية أوسع من مشروعيّة القصّة، لأنّها قارّة في الوعي الجمعيّ لنسق ثقافيّ ما.

هذا ما يجعل القصّة، ذلك الفنّ الحديث، تبلغ أعلى ذروتها الفنيّة حين تصير حكاية، لأنها تحاكي عندئذ ما أنتجه النسق الثقافيّ ممهوراً بمشروعيّة تراثيّة.

لقد عدّ النقد في المرحلة السابقة تطوير الحكاية لتصير قصّة دليل تفوّق النصّ، في حين يلمح اليوم من روح النقد الثقافيّ أنّه يشجّع تطوير القصّة لتصير حكاية، تتمتّع بخصوصيّة النسق الذي أنتجها، وهذا ما يفعله فاضل السباعي في مجموعته القصصيّة (تقول الحكاية)، الصادرة عن دار إشبيلية، دمشق، 2006.

يتضافر الهمّان الفنيّ- الحكائيّ، و الفكريّ (الوطنيّ - الإنسانيّ) في كلّ قصّة من قصص (تقول الحكاية) العشر، فرغبة فاضل السباعي في أن تبلغ قصّته ذروتها لتتحوّل إلى حكاية، توازي رغبته في تحويل الواقع المتخيّل إلى آخر موضوعيّ يشترك معه في الجوهر.

تنبجس قصص المجموعة التي تسعى للتحوّل إلى حكايات من قلب المرحلة، باحثة عن طريقة مشرعنة ثقافيّاً تفضح بها ازدواجيّة المعايير في البنية الاجتماعيّة، والفساد، والاستبداد، والتنازع على السلطة بين ما يسمّى بالحرس القديم والحرس الجديد، ولم تجد تلك القصص طريقة أكثر مشروعيّة ثقافيّة من عبارة (تقول الحكاية) إذ إنّ نسبة المرويّ إلى الحكاية تمنحه مصداقيّة، ومشروعيّة لدى أفراد البنية، تفوق مشروعيّتها مشروعيّة نسب المرويّ إلى راويه أو كاتبه، لذا تتكرّر اللازمة (تقول الحكاية) قبل أن نصل إلى الوحدة السرديّة الأخيرة التي تتوضّح فيها نهاية مضمون القصّة.

تقول الحكاية ما لا يستطيع الكاتب الفرد أن يقوله، لأنّ قائلها مجهول، من هنا تأتي خطورة الحكايات، من قدرتها على المخاتلة الفنيّة لفضح المخاتلة الأخلاقيّة: السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة،... أو ما يمكن تسميته بالمخاتلة النسقيّة.

لعلّ فاضل السباعي الذي أثرى الحياة الإبداعيّة العربيّة منذ خمسينيّات القرن العشرين ب(رياح كانون) و(ثمّ أزهر الحزن) وغيرها من الروايات والمجموعات القصصيّة، يعيد عهد الحكاية جديداً، ويؤكّد على ازدهارها، ما استمرّ الزيف الذي يلفّ حياتنا أفراداً ومجتمعات.

يكثّف فاضل السباعي الجور كلّه الذي يُمارس على المواطن العربيّ من قبل ذاته، ومن قبل الآخرين، فيعتّقه في دنان الفنّ، لينسكب في حكايات نستطيع جميعاً أن نقول إنّها حكايات لم ينتجها فرد، بل أنتجتها الثقافة عبر تاريخها الممتدّ، ليتمكّن أبناؤها من الصبر، والمقاومة، والاستمرار في الحياة، بهدي من الحكاية.

* مدرّس نظريّة الأدب والأدب العربي الحديث في جامعة حلب لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة