Culture Magazine Monday  11/02/2008 G Issue 233
سرد
الأثنين 4 ,صفر 1429   العدد  233
 
الثعلب
علي المجنوني

 

 

صباح هذه المدينة غريب، لا يتلوّن بلونها ولا يرتدي رداءها. تنبعث من سماعات جهاز الراديو أغاني الرعاة في إقليم بلوشستان وروائح الثلج الذائب من قمم الهيمالايا، لتصافح الشارع المتثائب في وهن، يسبقها دفء المكان.

من الجهة المقابلة للشارع استطاع وهو يترجل من السيارة أن يرى من فرجة ضئيلة بين طرفي الستارة المنسدلة خلف الباب أن زبوناً قبله قد فاز بحلاقة الأربعة ريالات. لليوم الثالث على التوالي يفوته المغنم وريال الصباح. لم تساعده أمه التي توقظه كل صباح أن يفتح يوماً باب الرزق لهذا الحلاق. ثالث يومٍ يأتي وقد تلاشت (يا فتّاح يا كريم) على رأس الزبون الأول. لكن لأن اليوم يومُ خميس، ومحلات الحلاقة لا تفتح أبوابها صباح الجمعة قرر أن يواصل طريقه للمحل ويحلق رأسه. عبر الشارع يقوده ظله المتكسر أمامه، وخيوط الشمس الباردة تتسلق كتفيه النائمين.

تمطى عند باب المحل كما تمطى صباحُ الخميس قبل ساعة، وفرك عينيه بوحشية قبل أن يمد يده نحو الباب. بعد خطوتين، أعلن باب الألمنيوم تمرده هذا الصباح على أرضية المحل. دفع الباب فصرّ في عنادٍ حتى أدار الزبون الرابض على الكرسي رأسه نصف المحلوق في فزع. أهو الباب يرفض الدخول إلى المحل ويخشى أن يحلق رأسه؟ أم أن الأرضية تنتفخ وتعلو بسطحها في ليل المدينة ثم ما تلبث أن تعود قبل أن تستيقظ المدينة وتكتشف أمرها؟ بدا له أن الأرضية تريد معانقة السقف الذي يهبط بدوره قليلاً قليلاً استجابة لرغبة الأرضية، وكلما أمطرت سماء المدينة زاد ظمؤه للنزول.

لو تأتي السماء ذات ليلة شتوية بوابل ينزل معه السقف وترتفع الأرضية، فيلتقيان في فراغ المحل ويملآنه! سيجدان راحة في الفراغ، ولربما يجلسان على الكرسي لراحة أكثر!

هل سيستمعان لأغاني الرعاة في إقليم بلوشستان ويشمان روائح الثلج الذائب من قمم الهيمالايا؟

لن يتعانق السقف والأرضية إلا أن تغيب الشمس عن المدينة شهراً أو تمطر سماء المدينة شهراً!

وضع حداً للتوقعات التي أرهقت تفكيره.

الحلاق المنهمك في ضحيته لا يسأل تحية ولا يردها إن أتت. لا يكترث لغير الرؤوس. ربما هز رأسه لزبون كبير البطن، وتلكئذ تحيته. في الصباح يكون الحلاق أكثر رغبة في الصمت وهو يستمع إلى صوت مقصه أو آلة الحلاقة خاصته تحرث الرؤوس وتبذر الصلع، في حين يعلو صوت جهاز الراديو ويهبط مع موجات الأثير التي أضناها البعد.

رمى الحلاق بنظرة باهتة، ثم سحب خطاه واحتل مكاناً له بين فضاء الأريكة البالية جلس فيه بفتور. زفر بعمق وتفحص المحل بعبث كأنما يبحث عن شيء جديد. المقص النحيل يحرث رأس الزبون جيئة وذهاباً في نشاط. انتبه لخيط من خيوط الشمس نُسج من فضول لم تمنعه الستارة المنسدلة على الباب من أن ينفذ ويقع على وركه. تزحزح عن مقعده قليلاً حتى عانق الخيط بقعة من الأريكة طار قماشها فغاص في الإسفنج.

الحلاق يغمس موساه كل حين بهمّة في وعاء معدني صغير مملوء بالماء المعقم الذي يزرع الخدر في الرؤوس. وحوض المغسلة قد اتسخت أطرافه ببياض الماء المالح. في محلات الحلاقة كل أبيض يعتبر دليلاً للفوضى ولا بد أن يزال. الشعر الأبيض يزال بحلاقة أو يمحى أثره بصبغة زائفة، ورغوة الحلاقة بيضاء قبل أن تزال وتزيل معها الشعر، وبياض الماء المالح يتعلق على جدران حوض المغسلة فيثير حنقه قبل حنق الحلاق.

على الجدار المقابل مباشرة للباب ثبتت مقاصل من خشب شنقت عليها مناشف متفاوتة الأطوال ومختلفة الألوان. خُيّل إليه أن لكل زبون منشفة. اختار المنشفة الكبرى.

كي تغطي كامل كتفيّ. أكره الشعر حينما يتسلل إلى داخل ثيابي. أقنع نفسه.

واصل التحديق في أشياء المحل. تنتشر على جدران المحل مرايا العري التي سئمت وظيفتها بمرور الزمن. تطبع في دواخلها لكل زبون صورتين، صورة كسوة وصورة عري. أمام الكرسي مرآة كبيرة للوجه وخلف الأريكة أخرى للقفا. ليس هذا فحسب، إذ تنعكس الصورة التي طبعتها المرآة الأمامية في المرآة الخلفية، والمرآة الخلفية بما فيها تنعكس في المرآة الأمامية مرة أخرى، وهلم جرا.

مرايا من الضياع غير المنتهي تشهد على خيبتنا. علّق.

في أي معهد حلاقة في إقليم بلوشستان تعلم هذا الحلاق؟ أشك أن هذا الحلاق المتعالم بمقصاته وأدواته سيعجز حتماً عن جز صوف نعجة إما غزا صوفها القمل. ببساطة لأن النعجة لن ترضى بحلاق غير مدرب أن يجز صوفها، في حين نأتي نحن خاضعين مذعنين نقود رؤوسنا ونقدمها له في ذل.

لا صوت يعلو صوت جهاز الراديو. لا صوت أصلاً، فالحلاق أقرب إلى رأس الزبون منه، يفهم منه ما يريد قبل أن ينطق. هكذا يتخاطب الحلاقون مع ضحاياهم. تأمل لشأن قطافي الرؤوس هؤلاء. هم الوحيدون الذي يصلون إلى أعلى نقطة في رؤوسنا. ما الذي خوّل لهم هذا الامتياز؟ يستقبلوننا، يعرون رؤوسنا، يصوروننا بمراياهم، ثم ينفضون رقابنا وظهورنا. حتى أبوابهم تهزأ بنا عند الولوج وعند الخروج.

ربما سيقطفون رؤوسنا لو تآمروا على المدينة أو تآمرت علينا المدينة نفسها ذات يوم.

ليس بعيداً عن الأريكة تصمد طاولة عجوز نثرت على صفحتها جرائد ومجلات قديمة أنهكتها أيد وعيون تنضح أمية. هذه الجرائد والمجلات التي وضعت لتقتل الانتظار الحاد أو ربما لتلطفه على الأقل تعيش فوضى مقيتة. دس يداً عابثة بين ركامها الفوضوي فتصدت لكتاب عار لم يسلم من أذى الأمية. الكتب تثير الشفقة إذا فقدت أغلفتها.

قلّب الكتاب بين يديه، ثم قلّب بصره بين صفحاته. صور وذكريات قديمة سجلها اللاعب الماكر من حياته في هذا الكتاب الذي لقي نفسه أخيراً في محل حلاقة. تذكر مرة أخرى أن الكتاب العاري يثير الشفقة، شفقة القارئ وشفقة الآتي للحلاقة، ولكن ليس شفقة الحلاق هذا. لو علم هذا اللاعب الثعلب -كما يلقبونه في زمانه- أن مآل كتابه محل حلاقة لما كلف نفسه عناء الكتابة عن نفسه وعن ماضيه. كتابه هذا أصبح الآن من الماضي، وليس حياته الأولى وذكرياته فقط.

توقفت حنجرة المغني وصمتت الأغنية فجأة حين انتزع الحلاق سلك الراديو من المقبس الكهربائي اليتيم بلا استئذان وأوصل به سلك مكينة الحلاقة. لون آخر من ألوان الوهن وصوت آخر من أصواته.

رفع الكتاب باتجاه الحلاق الذي انتبه له، وقربه منه في استفهام صامت، معناه هل آخذه؟ فأجاب الحلاق فوراً وبحزم:

- ؟؟؟ريال.

اتسعت عيناه فعدّ بأصابعه. لم يدرك أنه نسي الأعداد بالأورديّة حتى تلك اللحظة. هزّ رأسه ضجراً، ثم عدّ من جديد: أيك.. دو.. تين.. ؟؟ر.. ؟؟؟؟ خمسة إذن. طارت من عينيه علامة استفهام تلقفتها عينا الحلاق وذهنه بسرعة.

- آ؟؟؟، ؟؟؟ريال. وأشار بيساره العاطلة أن نعم، خمسة.

استحال الماء المعقم الأزرق أبيضاً بفعل الرغوة التي تخضها موسى الحلاق في دأب.

رؤوسنا، كما أرضية المحل، تنبت إلى أعلى. لكن تخرسها المقصات وأدوات الحلاق، كما يخرس الصباح رغبة أرضية المحل في العلو ومعانقة السقف.

خمسة الريالات تقصف ذهنه.

حول الكرسي الأحمر الذي يناسب كل المؤخِّرات، نبت الشعر مؤقتاً على أرضية المحل التي تحلقها المكنسة كل مساء.

كم هم محظوظون ذوو الرؤوس العارية. لن يعريها لهم حلاق سخيف مثل هذا، ولن تكترث أبداً لمطر أو قحط مثلما يكترث رأسي ورأس هذا الزبون.

(... كما أنني لن أسقي رأسي حتى لا يطول بسرعة، وحتى لا يعانق سقف المحل أرضيته فيجد الحلاق نفسه فجأة بلا عمل).

من يحلق لهذا الحلاق رأسه؟ أيذهب لحلاق آخر يحلق له، أم أن أسد الغاب لا تأكل بعضها؟ لا يهمّ.

عقد العزم على أن يؤجل قص شعره، وأن يأخذ الكتاب معه. كان ثمر قراره هذا انتظار الزبون حتى ينتهي. تقدم للحلاق وهو ينفض منشفة الزبون الذي نهض للتو ودس في يده ورقة الخمسة ريالات وهو يقرأ تكشيرة في وجه الحلاق.

على إثر الزبون الأول، دفع الباب للخارج فاستقبلته عين الشمس التي أصبحت الآن أكثر جرأة وأوضح ملامح. استقبلته بشعر كث، وكتاب منزوع الغلاف وورقتين من بعده، وسؤال حائر يلوك رأسه: أي ثلاثتهم الثعلب: اللاعب القديم أم الحلاق المتحذلق أم هو نفسه؟

(ولو أن في الشَّعر خير...)


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة