Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
ذاكرة
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 

ميخائيل عيد..(*) مِنْ عَلى رصيفي
نادر عبد الله

 

 

إنسان فقير وأعزل كميخائيل، لم يكن بوسعه سوى تعلم اللغة البلغارية، التي بذلتها الاشتراكية على امتداد النصف الثاني من القرن العشرين، لأولئك المسحوقين في العالم، كجزء من منظومتها الأيديولوجية، وآلياتها في محاولة تكريس نفسها نموذجاً بديلاً للعالم.

وكما هو شأن التاريخ دائماً، فالذين خارج جغرافية تطبيقات الفكرة، أو العقيدة، أو الأيديولوجية. يكونون أكثر إخلاصاً لها لأن صلتهم بالفكرة قائمة على الحلم، واستدعاءات الخيال التي لا تأخذ من التطبيق سوى شكل يظل طهرانياً، وخارجياً دائماً... إذ إنني أذكر شخصياً عند زيارتي الأولى للاتحاد السوفييتي في نهاية الثمانينيات، راعني في المطار رؤية المنجل والمطرقة على ذلك النحو العلني الشعاري إذ كان الشرطة يضعونها على (بيرهاتهم) كشعارٍ للدولة، ولشد ما أصابني الاعتزاز والحماس، كوني رأيت لأول مرة - بأم عيني - هذا التجسيد الإعلاني الواضح للفكر الذي كنت منتمياً له.

لذلك فإننا من الخارج، بوسعنا الاكتفاء بأشياء من هذا النوع لنشعر أننا لسنا وحيدين بمواجهة أعدائنا، وأن الفكرة تمتلك بعض التأكيد، وبعض الحقيقية، وبعض الأمل.

أما ما يقبع تحت يافطتها، من بيروقراطية، وشمولية، وفساد كنا نتداوله أحياناً كأخلال إدارية، وحزبية، وتنظيمية. أما الأيديولوجية. فلم يكن يرقى إليها الشك أبداً، حيث كنّا مستلبين لها تماماً.

وهكذا تم تبديد عشرات من السنين في ملاحقة ما يشعّه وينتجه المركز الاشتراكي، وكانت الأصول المتجسدة في ماركس وأنجلز، ولينين، حاضرة دوماً، بحيث كلما شعرنا بالترهل وكلما شعرنا بالتأرجح قليلاً، نضع برنامجاً لإعادة قراءة رأس المال -الذي لم نكن نفهم منه الكثير، رغم معاودات القراءة- أو كتب لينين بصدد الجملة الثورية، وخطوتان، وما العمل، وبناء المنظمات الشعبية.

كنا بالفعل مخلصين أو مؤمنين بالماركسية كآخر منجز معرفي لخلاص الإنسانية، وما علينا سوى الإبحار في عالمها لتأسيس عوزنا، بمزيد من الجديّة، والصرامة، والمعرفة.

الآن أنظر -من على رصيفي- إلى الكتب الكثيرة التي ترجمها (ميخائيل) عن الأدب البلغاري- ولا أزال أفردها على بسطتي منذ أكثر من شهر - وأتساءل في كل مرة أراها، عن جدوى الجهد الذي بذله الرجل هنا، متناسياً الجهد الذي بذلناه جميعاً في الخفاء، في ليالٍ (تعب فيها المصباح الساهر) ونحن نقوّل الماركسية من إبهام الفكرة وبداياتها عند هيغل إلى (أميننا العام) الذي تنتهي بسكب كؤوسنا على قلم -ماركة باركر- في فمه، ليشاركنا الحماسات الثملة الأخيرة، قبل فقدان الوعي.

يبقى ... أن (ميخائيل عيد) مثلنا قاعي الانتماء والهوى، وفي القاع لا توجد فقط العقائد، والأيديولوجية، بل مولداتهما. التي تستدعي الإخلاص دائماً.

* * *

(*) ميخائيل عيد: شاعر سوري توفي قبل فترة من الزمن.

دمشق


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة