Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
ذاكرة
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 
تقديم وشهادة
(من أصغر تلامذة الأستاذ)
فيصل أكرم

 

 

كان في السابعة عشرة من عمره حين جئتُ إلى الدنيا، وفي العام نفسه تم تعيينه مدرّساً (أستاذاً) في إحدى مدارس مكة المكرمة - القليلة جداً في ذلك الزمن - ومنذ ذلك العام أصبحتُ أنا أكثر من مجرّد أصغر أشقائه..

الأستاذ حسن علي أكرم، المولود عام 1372هـ 1952م، والمتوفى عام 1429هـ 2008م عن عمر يناهز 57 عاماً (رحمة الله عليه).

سأحكي هنا شيئاً عن سيرته كما أعرفها، وسأسكتُ تماماً عن كلّ ما لا أعرفه.. لتكون هذه السطور (تقديماً) يتصدّر كتاباً ضخماً يضم مختارات من أدبه وتراثه الثقافي الذي فوجئنا به يملأ بيته بعد رحيله - رحمه الله -.

سأبدأ من حيث بدأتْ بي الحياة، في بيتنا المكوّن من أب وأم وخمسة أبناء وأربع بنات. فتّحتُ عينيَّ وأنا أبصرُ كتباً كثيرة تترامى في زوايا البيت، مما يجعل كلّ من في البيت ينال شيئاً من قراءتها.. وحين كبرتُ أدركتُ أنّ أخي (حسن) هو من كان يشتري تلك الكتب الكثيرة، المشتملة على الروائع من كلاسيكيات الأدب العربي.. ليقرأها هو، ثم يتركها لنا من دون أن يفرض علينا قراءتها.. ولكنه كان يبتسم! فقط يبتسم راضياً عندما يرى أحد إخوته الصغار يتناول كتاباً منها ليقرأ ويقرأ..

حين بدأت عيناي في النموّ، وتفحّص ملامح الأشياء لفرز القبح عن الجمال.. كان يتمثل أمام عينيَّ أبهى نموذج للجمال والأناقة والعنفوان.. إنه حسن.. (أو سِيدي - كما كنتُ أناديه) فلقد كان وسيماً كريماً حريصاً على التأنق والتعطّر واللباقة والأنفة قولاً وأفعالاً، مما أكسبه قيمةً وهَيبةً غمرت منزلنا كله بتقدير وإعجاب كل الجيران.

فـ.. مركازُ أخي حسن، عند مدخل باب بيتنا - المجاور للحرم المكّي في ذلك الوقت - كان مقرّاً لاجتماع كبارات رجال مكة وأدبائها وفنانيها، وكان (حسن) نجمَ تلك الجلسات.. بل هو قمرها الأكثر جاذبيةً وأبّهةً وبهاءً..

كبرتُ أكثر، وبدأت أدرك أكثر فأكثر أن لشقيقي الأكبر قدراً متميزاً بين الناس، فلم أكن أرى أحداً يخاطبه باسمه (حسن) إلا ويسبق الاسم بصفة (الأستاذ).. فكل من كان يسألني عنه، من كبار الشخصيات، كان يقول: أين الأستاذ حسن؟ في حين كان (حسن) لم يصل بعد منتصف العشرينات من عمره!

بينما السائل كان في الأغلب من شيوخ الحي!

دارت الدنيا دورتها حتى وصلت بنا إلى فاجعة وفاة والدتنا - رحمة الله عليها - حين كنتُ أنا في الخامسة عشرة من عمري، وكان سيدي وأستاذي حسن في الثانية والثلاثين..

بعد ذلك ابتعدَ حسن.. استقال من وظيفة التدريس، وابتعد.. لم نعد نعرف مكانه..

طلب مني أنا - شخصياً - عدم البحث عنه، وغاب..

غاب من دون حتى أن يأخذ نصيبه من تركة والدينا - يرحمهما الله -.. غاب طويلا وكثيراً.. غاب إلى الأبد.. غاب حتى أبلغتنا الشرطة في جدة أنهم وجدوا أخانا الكبير ميتاً في بيتٍ كان يسكنه ويعيش فيه بمفرده.. وحيداً (ليت وحدتي كانت فداه)..

إنا لله وإنا إليه راجعون..

كل نفس ذائقة الموت، والحياة ستستمر.. غير أن حسن لم يترك أثراً بالغاً في أنفس إخوته وأولاده ومحبيه فحسب، بل ترك تراثاً ضخماً من الأدب والفكر والإبداع وُجد مخطوطاً في بيته حيث كان يعيش.. في مدينة جدة.. ولا أحد يدري هل كتب كل هذه النصوص هناك أم في مكان آخر لم يخطر لنا ببال؟!

ولأن المتوفى لا يمكن أن يجيب عن أسئلتنا ويعالج حيرتنا، فقد التزمنا الصمت ونحن نحمل جثمانه الطاهر ونصلي عليه في بيت الله الحرام ونسكنه مرقده الأخير في مقبرة المعلاة بمكة المكرمة، التي سبقه إليها أبوانا - رحمة الله عليهما - منذ عقدين ونصف..

ولأنني كنتُ أعرف جيداً أن المرحوم لم يكن يحب أخبار الوفيات في الصحف، فقد حرصتُ على عدم نشر خبر وفاته.. وإنما أعددتُ له توثيقاً يليق بحياته الاستثنائية الغامضة وموته الحزين.. الحزين..

فأشدُّ حزنٍ يمرُّ بكَ أيها الإنسان، هو أن يفارقك أخوك الأحبّ خمسةً وعشرين عاماً، ثم لا تستطيع التعرف على جثمانه ميتاً إلاّ بتحليل الحمض النووي..

هي سيرةٌ كبرى، تلك التي لا أزال أجهل أسبابها.. وسوف أكرّس جُلَّ ما تبقى من عمري في محاولة استيعابها وكشف غموضها بمنأىً عن كلّ تخمين..

بين يديّ الآن أمانة ألزمتُ نفسي على احتمالها وإتمامها على أكمل وجه - بعون الله - وهي قراءة إنجازات الأستاذ حسن بعنايةٍ وتأمّل وتفكّر، ومن ثم انتخاب مختارات منها لتكون في كتاب يصدر باسمه ويكون ريعه لإحدى الجمعيات الخيرية.. ولعلي سأخصصه لجمعية مرضى السرطان (ولا أدري لماذا تتملكني الرغبة في هذا الخيار)..

غير أن المسألة تجلّت لي أصعبَ مما كنتُ أظن، فمن بين مواد تكفي لخمسة عشر كتاباً كيف سأتمكن من اختيار ما يكفي لكتابٍ واحد فقط؟!

هل أنشر المجموعة كاملة ودفعة واحدة؟؟

هل سيقبل القارئ العربي كماً هائلاً من القصص والروايات والمسرحيات والأطروحات لكاتبٍ لم يسبق أن قرأ اسمه من قبل؟!

غريبٌ ما وجدناه في بيت المرحوم.. غريبٌ حقاً.. فثمة خمسة عشر كتاباً مطبوعاً طباعة فاخرة، غير أن أياً منها لم يكن منشوراً..!

كانت الكتب تحمل على أغلفتها عبارة (تأليف: حسن علي أكرم) وسنة الطباعة (خلال السنوات الثلاث الأخيرة) غير أن الكتب جميعها كانت تخلو تماماً من كلّ إشارات النشر التي أعرفها جيداً بحكم الممارسة..

لم أجد رقماً دولياً، ولا شعار دار نشر حقيقية، ولا حتى اسم مطبعة!

وهذا ما جعلني أشعر بخيانةٍ سأقترفها لو لم أتولّ بنفسي (وعلى حسابي الخاص) القيام بمهمة التوثيق والطباعة والنشر، ولو لشيء منتخبٍ من هذا التراث الثقافيّ والأدبيّ القيّم فكراً وإبداعاً..

لقد استخرتُ الله، وتوكلتُ عليه في المضي نحو الخيار الأول: إصدار كتابٍ بعنوان (مختارات من أدب الأستاذ - حسن علي أكرم) وسيصدر - بإذن الله - خلال هذا العام نفسه الذي توفي فيه (رحمه الله وجعل إنجازه الفكريّ نوراً في قبره إلى يوم نبعث جميعاً)..

ولعله سيكون الجزء الأول وتتبعه أجزاء..

وإنني أعلن منذ اللحظة، وقبل إتمام عملية إعداد الكتاب للنشر.. أن المختارات لن تمثل أجود ما كتب الأستاذ، فهو أكبر من أن يكون محطَّ تقييم مني.. ولكنها ستمثل ذائقتي أنا - كمعد للكتاب - وما اعتقدته يصلح أن يكون (عِلماً يُنتفع به).. كنهر من حسناتٍ تشفع له حيث هو عند ربنا العظيم.

f-a-akram@maktoob.com الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة