Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
ذاكرة
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 

(محمود درويش)أمْ عناقُ الصدمتينِ؟!
خالد بن أحمد الرفاعي

 

 

ولد (درويش) الشاعر من مشهد لامس تفاصيله المؤلمة وهو في التاسعة من عمره، وذلك حين عاد إلى (البروة) بعد عامين من الرحيل فلم يجدها ولم يجد الحقل ولا المنزل، ليبدأ رحلته المعروفة إلى الحزن والسجن والمنفى، وإذا أخذنا بالمقولة المعروفة لعلماء الاجتماع: (مشاهد الطفولة مهد الشخصية) فإنّ ما شاهده (درويش) في طفولته كان كافياً لتشكيل شخصيته الشعرية الغاضبة.

لقد استمرّ (درويش) غاضباً حتى انتهى، ولم يمتْ فيه الغضب حتى مات، ولأنه أوقف نفسه على قضية فلسطين طوال عمره الشعري فقد أصبح قضية مثلها: حياته وموته، شعره ونثره، كلامه وصمته... إلخ، وما من أحد إلا وينظر إليه كذلك، وما اجتماع الأطياف المتباينة يوم جنازته إلا دليل من الأدلة الكثيرة على ذلك.

يا ترى ما الذي يميّز تجربة (درويش) عن غيرها من التجارب الأخرى؟

هذا السؤال يحتاج إلى دراسة علمية تتتبّع رحلة (درويش) من الألف إلى الياء لكي تضع إجابة كافية شافية لتاريخنا الأدبي، إذ ليس من الممكن أن يدرك أحدنا بقراءة متقطِّعة عالم (درويش) بكل ما يحتويه هذا العالم من مخلوقات ومظاهر طبيعية متنوِّعة على المستويين: الشعوري والشعري، لكن ما أراه من خلال قراءة للمتعة أنّ أبرز السمات التي ميّزت تجربة (درويش) عما سواها من تجارب الآخرين سمة (الصدمة) التي وجد فيها ذاته، ووجدت فيه ذاتها!!.

يعرف كلُّ من يتعاطَى الشعر -وإن بشكل محرّم- أنّ الشعر لحظة صادمة يتعرّض لها الإنسان لا يعرف كنهها ولا ماهيّتها، وما إذا كانت سحراً، أو تلبساً، أو إلهاماً، وهو ما حدا بالثقافات إلى تفسيرها تفسيراً أسطورياً يزيد من غرابة هذه الصدمة، وهلامية عالمها، ويعرف كلُّ متابع -مهما كان بليداً- أنّ القضية الفلسطينية صدمة أيضاً، فقد تفتحت أعين أجيال عربية كثيرة على هذه الأرض وهي تغسل بالنار من أهلها واحداً واحداً، فكانت صدمة لا تماثلها صدمة، ارتبك في التعبير عنها كل شيء، وارتبك في التعامل معها كل أحد.

وقد شاء الله أن توافق صدمة فلسطين موهبة خالية في (درويش) لتتمكّن منها، لتجتمع في هذا الجسد المفروش بالألم صدمتان قلما تجتمعان في جسد: (اللحظة الضاغطة / التجربة الشعورية) و(الحالة الشعرية / الموهبة الصادقة)، وإذا كان الشعراء كلهم مصدومين بالقضية الفلسطينية، فإن ظرفنا التاريخي لم يجد علينا إلا بشاعر واحد يتملكنا؛ ربما لأنّ صدمته لم تكن كصدمتهم، فهو رأى بعينيه وأكثرهم سمع بأذنيه، هو عبّ من واقع قريب يلمس نتوآته بيديه وهم يعبون من واقع بعيد تنقله إليهم شاشات البلازما، هم يتأذون من اسم السجن لذلك يصفونه من الخارج، وهو يتأذى منه، ومن أقفاله، وجدرانه، وأزراد سلاسله، أكثرهم يعبر عن دار الآخر وعن حقله ومرعاه، وهو يعبر عن داره والحقل والمرعى، كلُّ شيء في حياتنا له مستويات، وللصدمة مستويات أيضاً، وبقدر مكانك من الصدمة ومكان الصدمة منك تكون شاعراً.

ولد (محمود درويش) عام 1941م وأصدر ديوانه الأول عام 1964م، وفي أولى قصائد ديوانه قال:

(الزنبقات السودُ في قلبي...

وفي شفتي اللهبْ

من أي غاب جئتني

يا كلّ صلبان الغضبْ

بايعت أحزاني..

وصافحت التشرد والسغبْ

غضبٌ يدي..

غضبٌ فمي..

ودماء أوردتي عصير من غضبْ

يا قارئي!

لا ترجُ من الهمس!

لا ترج الطربْ

هذا عذابي..

ضربة في الرمل طائشةٌ

وأخرى في السحبْ!

حسبي بأني غاضبٌ

والنار أولها غضبْ!).

كثيراً ما تساءلت لماذا سمي (درويش) قصيدته هذه (إلى القارئ)، وكثيراً ما جال في خاطري أنه أراد لها أن تكون بياناً، بياناً لكل قارئ يبحث عن متعة في أشعاره وقناديله، بأن ما يقرؤه هنا - وما سيقرؤه في الدواوين اللاحقة كلها - شعر غاضب، لشاعر غاضب، ينتمي إلى مكان وزمان غاضبين.

ما بين موقف الاحتلال مع قريته وديوانه الأول (أوراق الزيتون) أكثر من ثلاثة وعشرين عاماً، ظلّ فيها (درويش) غاضباً، وجاءت قصيدته الأولى لتفجِّر في كلِّ واحد منا هذا الغضب، كأنما كتب أحرفها بعد الموقف مباشرة، وكأنما سمعناها ونحن نراه.

ثلاثة وعشرون عاماً لم تفلح في إطفاء ذلك الموقف، لأنّ ذلك الموقف قد صار هو، قد صار (محمود درويش) الذي شيّعناه ملفوفاً بالعلم!!

لقد تعدّدت الاتجاهات الفنية التي سلكها (درويش) مثلما تعدّدت اتجاهات قضية فلسطين، وتعددت مستويات لغته مثلما تعدّدت هي، لكنه ظلّ شاعرها الوحيد مثلما ظلت هي قضيته الوحيدة.

ولد (درويش) بميلاد القضية الفلسطينية ولن يموت إلا بموتها، ولعلّ هذا ما كان يشعر به (درويش) نفسه، وما كان يودّ إيصاله من خلال قصيدته (الوداع الأخير) في ديوانه (ورد أقلّ)، حين قال:

رأيت الوداع الأخير: سأُودَعُ قافية من خشبْ

سأرفع فوق أكف الرجال، سأرفع فوق عيون النساءْ

سأرزم في علم، ثم يحفظ صوتيَ في علب الأشرطةْ

ستغفر كل خطاياي في ساعة، ثم يشتمني الشعراءْ

سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة

ستروى أساطير عني، وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدةْ

ستبحث صاحبتي عن عشيق جديد تخبئه في ثياب الحدادْ

سأبصر خط الجنازة، والمارة المتعبين من الانتظارْ

ولكنني لا أرى القبرَ بعدُ. إلا قبر لي بعد هذا التعبْ؟

لقد قدّر (درويش) أن لا يكون له قبر بعد هذا التعب، لأنه لن يموت ما دام لفلسطين قلب ينبض بأغنيات الحياة!!

إن كثيراً من شعرائنا الكرام لم يبلغوا مبلغ (درويش) -ولن يبلغوه- لأنهم كتبوا الشعر بلا صدمة، أو لأنهم كتبوا الصدمة بلا شعر، إنّ كثيرا ممن أعرفهم يطير إلى عالم الإبداع بجناح واحد، لذلك يسقط قبل أن يرتفع.

إن الشاعر لن يكون شاعراً إلا بالصدمتين معاً!!

ثمة جزئية لا بد من الإشارة إليها هنا -لتثبيت الفكرة السابقة-: هي انتقال أثر القضية الفلسطينية على (درويش) إلى قارئ الشعر الدرويشي حتى في مرحلته الأخيرة، والتي أطلق عليها أحد الدارسين المرحلة الوجودية، والتي هي في حاجة دائمة إلى قراءة تأويلية جادة من أجل الوصول إلى معناها -إن كان لمثلها معنى محدد-، فمن يقرأ هذه القصائد يجد عدداً من الإشارات النصية تأخذه بعيداً بعيداً عن فضاءات القضية الفلسطينية، ورغم ذلك لا يستطيع القارئ أن يقنع نفسه بذلك، فضلاً عن إقناع الآخرين، لذلك تجده يتكلف في محاولة ربط هذه القصيدة بالقضية الفلسطينية حتى لو لم تكن لديه الإشارات النصية الكافية، وهذا يدل على أنّ (درويش) قد استطاع تأسيس فضاء إبداعي خاص به، يمتع حتى من يتيه فيه!

لولا عناق هاتين الصدمتين ما كان (محمود درويش) إلا فلاحاً -مثل غيره من فلاحي (البروة)- يعيش في (كوخِ ناطورٍ من الأعوادِ والقصبِ)!

ألا فليرحم الله كلَّ صدمة تعانق صدمة فتنجب غضباً، تنجب شاعراً، شاعراً مثل (محمود درويش) يتسع لسانه للتعبير عن صدمتين!!

الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة