Culture Magazine Monday  13/10/2008 G Issue 256
ذاكرة
الأثنين 14 ,شوال 1429   العدد  256
 

الليلة الخامسة والعشرون
في بيت أبي حيان التوحيدي
قبل إطفاء الشمعة الثامنة والستين ...وقد أبطأ محمود درويش

 

 

1- مسألة النقطة

- يقرأ هذا النص أو لا يقرأ.

- يقرأ في نفس واحد.. كونه جملة واحدة.

- يسمح بالتدخين أثناء القراءة.

يقرأ هذا النص بالاعتماد على تفعيلة المتقارب وزحافاتها، كموسيقى خلفية، تنبعث من لهاث اللاحق بالسابق، ومن ارتطام الداخل بالمارق، ومن دعاء المسروق على السارق، وفي حال الملل من الاستماع للموسيقى ينصح بالرقص عليها، وفي حال الكلل من الرقص، أو التطير منه باعتباره حركة تشين الأجسام الباركة، يُرجى التخلص مما يلف العنق ويأسر الرجلين، والاكتفاء بقراءة النص على أريكة بيضاء (كزهر اللوز أو أبيض)، أما إذا تبين أن النص ذاته ممل، لا بهجة فيه ولا سلوى، وهذا أمر لا يمكن استبعاده، لعدة أسباب منها أنه صمم، في جانب منه، لإعادة الاعتبار للملل في زمن التسعات العربية الأربع الشهيرة, الموافق لتلاقي يهود أوروبا مع أوروبيي أمريكا في قلب المقدس العربي في إجازة مفتوحة لا يعكر صفوها سوى قصائد الشعراء وحجارة الأطفال وشجاعة التواقين، فإن الحكمة تدعو إلى تركه ينام هانئاً، بين الظبي والغدير، أو بين الطائرة والغيمة، مع الاحتفاظ بحرية التألم من مجرد التفكير قي قراءته، شرط أن لا يبلغ ذلك التألم حد الندم فالاكتئاب ومن ثم الانتحار.. وحمل الأهل والأقارب على البكاء في جنازة كانوا في غنى عنها، هم الذين تعمدوا حذف النقطة التي على الذال التي بعد الألف واللام وسط هذا الاسم الموصول، وحولوه إلى قبر جماعي موحش، دون أن ينتبهوا إلى أن تلك النقطة الصغيرة، التي حذفوها، هي الضامن الوحيد لتمايزهم عن العائلة والقبيلة والعشيرة والجماعة، وبالتالي لوجودهم كأفراد وذوات حرة، قادرة على إدراك أن الفارق بين الحياة ودعتها وبين الحية ولدغتها مجرد ألف يتوجب مسكها، بيقظة وحزم مثلما يمسك سجين روماني، يواجه نمراً، بمنطق دموية الإمبراطور وبوجاهة براءة الحيوان، تلك النقطة التي اعتبرها شارل بودلير، إلى جانب ابنة خالتها الفاصلة، نخاعاً شوكياً لأي نص متسق مع إيقاع صاحبه ولحظة كتابته.. تلك النقطة التي نقدر بها أن نحب ولا نستطيع معها أن نكره.. تلك النقطة التي كرَّمتها العرب بتسميتها: رأس الكتابة... تلك النقطة التي شاءت الصدفة وحدها أن لا تكون ميراثاً لمحمود مقابل أن يستأثر درويش بخمس منها، لا ليشهرها في عيون حساده ، فقد أدرك مبكراً أن عشرين منهم أكثر غباء من عشرة منهم، وزاد.. فتفطن إلى أن العكس صحيح أيضاً، بل ليخسر منهن أربعاً، دون تخمين مسبق، على طاولات الكد الفيزيقي والعناد الميتافيزيكي والاحتراق الجمالي والأداء الساخر، آملاً في استبقاء واحدة فحسب، لتكون علامة استثنائية في سطر الشعر العربي والإنساني، ولما يمكن أن يقوله جسد عمودي، مبرمج للتعازي، لظله الأفقي، المشغول برد التحايا، بأحسن منها، على الحيوان والجماد والنبات، وعلى كل ما ظلت البشرية تسميه: أشياء، من باب التحقير والتعالي، وكأن حياتها يمكن أن تتجلى، في معنى من المعاني، خارج علاقاتها بتلك الأشياء .. وكأنها - هي ذاتها - موجودة خارج وهمها الجماعي بأنها تعقل الوجود... الوجود المعقول نيابة عنها منذ آلاف السنين وإلى حد هذه اللحظة.

2- مسألة الفاصلة

أضم إلى الموت صمتي

وأجلس في أول الصف حذو الغراب

أصفق عما يقول

أقول:

إذا قال شيئاً

ولم يزهق الصوت في الحرف

والروح في جسد الكلمات.

أوضح للناس

أني أطل على القدس

من حفرة هي بحر

على حفرة هي قبر

على جسد هو حمى وشعر ووحي ونثر..

وألبس زهو الطواويس أطروحتي

لا أبالي بعلم الثقاة

ولا أستهين بجهل الرعاة

أوجه لوماً خفيفاً إلى زوجة الشاعر الجاهلي

وزوجاتنا:

كيف يسمحن للجنيات بإتياننا في الخلاء

ولا يعتبرن القصيد لقيطاً

مع أنه

-في الحقيقة-

ابن.. لجارتهن: الفلاة

أسجل في محضر الاتهام اعتراضاً:

هنا رجل قال ما قال.. فالتفت الناس من حوله - ثم هاجر فالتفت الناس من حوله - ثم عاد فلم يجد الناس من حوله - كان هو الناس والناس هو - وهذا كثير على القائلين بأن الجماهير، في الشعر، محض كراسي - وسقطة وزن - و(جيء بها في القطار لتثأر للقدس بعد التحزم بالشعر والآيديولوجيا) - كأن، على مسرح الشعر،لا بد من شاعر واقف في طنين الذباب - كأن الفراغ أكف.. تصفق أيضاً - كأن الجماهير مطرودة من علوم الجمال وموعودة بحداء الجمال - ولقيا سيفصح إنطاقها عن فضائح في الشعر لم تتناه إلى مكتب المتنبي - كأن احتلالاً كهذا سيختل دون خيال كهذا - كان خيالاً كهذا بلا معجبين ولا معجبات - ولا قارئين ولا قارئات - ولا مطبعي ولا ترجمات - هو الأصل في حرفة الشعر منذ أرسطو إلى.. أحدث الفلسفات.. وآخرها: المؤلف مات!!

أقول لشنقيط: ليس انقلاباً وليس انتخاباً وليس جناساً وليس انفراطاً لعقد وليس كتاب (الأمير) وقد خانه الترجمان وليس جلابيب بيضاء ضد ملابس خضر وأزرار خضر وليس (لأن) وليس (لعل) وليس دعوا شأننا واعتنوا بالمرابي وليس حساباً عصياً على الخوارزمي وليس استعارات لوركا وليس تدخل إبليس في البرلمان ولا الشعر في الأيدولوجيا ولا الغرب في الشرق (شنقيط في الأطلسي إذن غرب.. روما) وليس وليس.. ولكنه عطش كامن في ضفاف اللغات.

أعزي المعزي ومن كان يحرجه أن يعزي

أعزي امرأ القيس والآمدي

أعزي المعري وبدرا وسعدي

وجاري وظلي ورامبو .. وناجي العلي

أعزي النبات

أصحح علم الخرائط:

إن حدود فلسطين بحر وصحراء..

ثم... السماء

..........

ومحمود

واللوز والشهداء

وما حفظ الطين في باطن الأرض من ذكريات

أوجه قوسي إلى عنقي

فارقصي يا غزالة في السهل

حل الربيع

ويا ملك الغاب خذ طبلة

ولتكن من جلود ضحاياك

ها بدأ الحفل..

من كان أطول من زهرة

طلعت قبل يومين من قبر صاحبنا

فليؤد الصلاة

ألاحظ أن (فعولن)

كحرب العصابات:

جيش بكامله ضد شخص بكامله

ثم جيش، بلا جنرال بكامله،

ضد شخص جريح

... يحاول أن لا يموت, بكامله،

هل أتاك حديث الحياة؟

ألخص فهم السياسة للشعر، عند العروبة، في مشغلين: (إذا جاء فاقتله أو أعطه ألف أورو..) - فلا أنت يا شاعر الأمس ميت - ولا أنت يا شاعر اليوم، حي - ولا أنت يا شاعر الغد ممن يسر بمقدمه كالسنونو - ولا أنت لغز العوام - ولا أنت في الشارع العام تبدل حالا بحال - وأمرا بأمر - لتعرف ما الحال في هذه الحال؟ - والأمر في واقع الأمر؟ - أما وقد أصبح الشعر في عصرنا - عصر درويش - شكلاً من الحكم - دون جيوش وقتلى وعسكرة للكتابة - باسم المشكل مثل لحوم الطيور على طاولات العذارى - من الواو والطاء والنون - مع أنه ليس أعلى من البشر القائمين عليه - كما أنه ليس من أجله وحده يصلح الموت أو ينبغي - .. أما وقد... - ...فلا بأس أن نحتفي في الأغورا بمشغلنا نحن:

نحن في الأصل

منذ الولادة

أو قبلها بدقائق

والأمر شاع

ويعرفه الطير والناس

والجن والشرطة البلدية

نحن، في الأصل، ضد التسلي بأشعارنا وبنا - وضد التسلي بأجسادنا وبنا - وضد التسلي بأسمائنا وبنا - وضد التسلي بأرزاقنا وبنا - وضد التسلي بأبنائنا وبنا - وضد التسلي بنا وبنا - وضد التسلي بلا سبب وبنا - وضد التسلي بجيراننا في الكتابة: صناع أحلامنا في الليالي الطويلات من يجعلون الحبال تفر من الأسقف العاليات - التجلي بنا ممكن.. - ممكن التحلي بنا -.. التناجي بنا ممكن - ممكن التناغي بنا -.. ممكن كل شر مع الشعر والشعراء... عدا ما سمعنا... عدا ما رأينا وما سنرى نعود إلى: ما الدليل على أن محمود درويش يستأهل الحمد أصلاً؟.. وكم نخلة قد يكون أضاف إلى ضفة النهر؟ ماذا سيبقى من الشعر في شعره إذا نحن لم نتحكم بغيرتنا من فراشاته؟.. ومن أين للشعراء التكلم في حضرة العلماء؟

(أضيف أنا والحساب علي غرفتي أو على غرفة المهرجان الذي لا نقود له عندما ينقد الشعراء: خصوصاً إذا كان للعلماء مراتب دينية ومواقف قبلية ومناهج جاهزة للقراءة أو للإدارة لا تبصر الخلو من أي شعر ولا يتأتى لها أن توازن أي... تضع الشيء في موضع الشيء بالضبط... والضبط وزن وإلا لكان زنا كفة بأختها... وأقرأ ابن قتيبة وهو يحاول أن ينصر الشعراء على العلماء: (وقد رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف ويضعه في متخيره ويرذل الشعر الرصين ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه أو أنه رأى قائله)! وأندس في كتب الأولين مع الحسن المستنير بطاساته في بياض الحليب:

لأعرفنك بعد الموت تندبني

وفي حياتي ما زودتني زادي!

وغير بعيد عن الدار أقرأ هذا لشاعر تونس والعالم العربي:

الناس لا ينصفون الحي بينهم

حتى إذا ما توارى عنهم ندموا!

دليلي: على هذه الأرض ما يستحق الحياة

3- مسألة الدقيقة

1- المسألة

كوني أحبك.. لا جدال.. وإنما

ماذا أقول... وقد بليت بانما

وعليّ تقفية القصيدة كلها

بيتا فبيتا.. صاحيا ومنادما

وعلي قبل.. كتابتي وخلالها

الشك في خبر الجزيرة.. ريثما..

تجد المؤلف عند باب كتابه

جسداً وظلاً: (السلام عليكما)

أما وقد.. سقط الحصان.. وسرجه

ونفيت أنت من الجليل إلى.. السما

وأمالك الأعمى إلى غفرانه

ليرى القصيد محرراً ومؤمماً

ويرى بلادك بلدتين و...حائطاً

فكأن ما ترك اللصوص تقوسما!

فأنا أحبك ..لا جدال.. وإنما

ماذا أقول.. وقد بليت بانما!

2 - الدقيقة

قالت:

سأنتحر الدقيقة هذه

... محمود مات

فما أنا من بعده ؟!

....................

قلنا:

أطال الله في عمر الدقيقة

.. فاقرئي هذا القصيد

.. بخطه

......................

جلست

لأن دقيقة تكفي..

لتجلس

أو...

تنط من الهواء

لأجله

...................

الشال كان معلقاً

- مثل القضية -

قربنا

.. متباهياً بعقاله

..................

والقدس

-لولا أنه قمر-

لقلنا:

ها أطل ..معزياً.. بقبابه!!

.......................

أما الدقيقة

فانتهت

.. قبل الدقيقة

باندفاع دموعها في.. حبره

........................

نبت الربيع

وكان صيفاً في بكين

.. وعندنا

فتخيرت من مرجه:

ذكراً وأنثى

- والطبيعة هكذا -

وفراشة.. حوامة في شعره

........................

وقفت..

فكنت رخامة لوقوفها

ولبست شاهدة المكان

... على اسمه

.......................

في مسرح الأحداث

حيث حنينها

ودموعها

وجلوسها

وأنا.. وهي

وربيعها

وزهورها

ووقوفها

.. والموت يكتب

... والحكاية تنتهي

....................

مثلت دور محمد

وأضفت واواً:

ها أنا:

محمودها... في قبره.

غابة رادس – تونس - 2008


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة