Culture Magazine Monday  14/01/2008 G Issue 229
فضاءات
الأثنين 6 ,محرم 1429   العدد  229
 

خطوط في رمال الثقافة
(مثقفو البدعة)
علي الصراف

 

 

عندما يكون من النادر أن يتفق المثقفون (شعراء، نقاد، روائيون، مسرحيون.. الخ) فيما بينهم على أمر، فهذا قد يفصح شيئا عنهم، ولكنه يفصح أكثر عن (ثقافتهم) نفسها.

نقص التأهيل والتأصيل النظري، واحد من المعطيات التي تجعل الاختلاف فاضحا. كل شيء يبدو تجريبيا في ثقافتنا، وكل شيء يبدو ممكنا أيضا. وعلى الرغم من أن هذا يمكن أن يكون أداةً قيمةً للإبداع، إلا أنه ليس كذلك في الواقع. إنه بحر صخب ومناوشات، أكثر منه بحر خلق وتجديد.

الروح هي ما تفتقده الكثير من تلك المناوشات، حتى لتبدو وكأنها بلا معنى. أو مجرد عراك أطفال خرجوا للتو من محاجر المدرسة.

وبطبيعة الحال، فلعدوى السياسة عدواها بين المثقفين. وهذه مثلهم تشتغل، عربيا، دونما تأهيل أو تأصيل نظري؛ دونما رؤية.

النظريات كثيرة طبعا. والأفكار على قارعات الطرق. ولكن (التحلي) بها لم يخرج بعد عن كونه (تحليا)، أي تبريرا لإدعاء المعرفة وليس لتحويل المعرفة إلى أداة من أدوات الإنتاج والعمل.

الكثير مما نفعله، أو نقع ضحيته، أو نحصد نتائجه، إنما هو ثمرة تلك العشوائية التي تجعل كل عمل بدعة، أو جديدا لا مألوف له في الفكر والممارسة؛ شيئا يهطل من سماوات التجارب فجأة، ويختفي دون أن يترك وراءه سوى عواقب مؤسفة، أحيانا، ومدمرة أحيانا أخرى.

وها نحن لا نعرف، في خليط الثقافة والسياسة السائد اليوم، ما إذا كان يتوجب علينا أن نضحك أم نهزأ أم نبكي، إذ لم يحدث أن صادف هذا الخليط الدامي، نهايات تختلط فيها المهازل بالمآسي، والضحك بالدماء بهذا المقدار المفجع.

العراق قد يكون شاهدا. ولكن لنا، في الكثير من قضايا السياسة والثقافة العربية، ما يشبه الفاجعة نفسها.

وكأننا في جنازة، يهنئ المشيعون فيها بعضهم، ويودعون القتيل بالنكات، وليس ثمة قتلى في هذا المسرح العبثي أكثر من حجر الزاوية في الثقافة: الوعي نفسه، وأصحابه الذين لا يجدون لأنفسهم متسعا للتأمل في هذا المقطع الهزلي العنيف من التاريخ.

قد يكون صدق المعاني هو كل ما كسبناه في هذه المجزرة. فلا شيء غامض الآن، ولا أحد، واللعبة واضحة تماما. فالمسرح الذي نمثل فيه واضح. وحراسه واضحون، وغاياتهم واضحة أيضا.

ولكن من اجل أن يبقى لدينا، من هذا القليل الذي نملك، ما نعتد به، هل كان بوسعنا أن نتفق، وأن نؤجل الأوهام، لنبدأ رؤية أخرى أكثر اقترابا من حقيقتنا، ليس بوصفنا مجرد (ظاهرة صوتية)، بل بوصفنا (أمة- معنى) قادرة على بلوغ هدف لا تتنازعه تناحرات التجربة.

ولكن ذلك بدوره كان حلما آخر من أحلامنا البائدة. فنحن لا نتفق حتى على هذا الوضوح.

لم نتفق على أن ما نراه من التمزق تمزق بالفعل. فهناك بيننا من يرى أن الوقت صالح للابتهاج. وأن الانتصارات التي نحققها كافية لتجعلنا نطير، وأن ما خططناه (لهزيمتنا) صحيح، وان الخراب المتفشي (فلولا) احتمال مشكوك بصحته، وأن الجنازة عرس، وأن الضحايا هباء ضروري لتحسين البيئة.

لم نتفق على أننا أمة تسحق نفسها بنفسها، قبل أن تفعل بحذاء الغريب. لأن هناك بيننا من يعتقد أن هذا الوضع مدخل مناسب للحرية، وانه نجمة في سماء البيارق المنتصرة، وانه قمر القصيدة والغزل الوطني الجديد.

لم نتفق على أن قتل الأبرياء حرام. وان السياسة لا تعود جديرة بمعناها إذا ما انتهت مسرحا لسفك الدماء.

لم نتفق على أن الوطنية- تضحية من اجل الآخرين أولا، لا من اجل أن نملي عليهم جحيمنا الخاص قسرا.

لم نتفق على أن روما العصر تتفوق بما يعده المهزوم لنفسه من أسباب الهزيمة، وان سبارتكوس العبيد لن يكسب رضا التاريخ إذا جاء مدججا بالجهل والحماقة والطيش.

كما لم نتفق بعد على أن أغلب الشعر الذي نكتبه فقير، لأنه لغة تعوم في الفراغ، ولأنه حشد من الكلمات التي لا تفضي إلى معنى ولا تدل على طريقة في الشعور أو التجربة، ولأنه رغوة وثرثرة وهباء لا جمرة تحرق القلب والدفاتر، أو زهرة تميل وتستميل، فتثمر إحساسا خلاقا. فهناك بيننا من يعتقد انه عبقري بالفطرة وانه آخر من ولدت النساء من الشعراء، وانه مجنون بالتراكيب الفظيعة والصور الخارقة.

لم نتفق على أن الكثير من أقاصيصنا هشة التكوين والبناء، لأنها بدأت موهبةً وتوقفت عن متطلبات الحرفة، لتظل موهبة. تبدأ طرية، وحلوة ومغرية، وتنتهي ناشفة وعجوزا تنافق مرآتها بالكثير من الأصباغ المزرية. وهكذا، فإنها لا تشق طرقا جديدة، ولا تكشف للحياة معنى جديدا، ولا تغييرا تنشد، بل تظهر كحالة نصوصية ثابتة في الفراغ، بلا تاريخ، أو كغيمة تمطر حصى وتذر رملا في العيون، أو كبناء من الإسمنت المسلح، كتل صماء من الصمت واللاشيء.

لم نتفق أيضا على أننا نضطهد الاقتصاد بما نستهلكه من ورق الجرائد عن أوهامنا الذاتية. فهناك بيننا من يرى أنه معجزة في بناء الشخوص وهدمها، وفي التفكيك والتكنيك، وأن الجوائز الكبرى تلاحقه، وتقض مضجع هدوئه، وإنه متواضع لا يحب الشهرة والإدعاء.

لم نتفق على أن ما نقوله من النقد كارثة، في معظم الأحيان، كالزلازل والبراكين، لأنه مهزلة في تركيب الجمل العصيبة التي تصلح لكل شيء، ولأن هناك بيننا من يعتقد أنه متخصص في طبخ النصوص المجردة، وتوزيعها حسب الطلب، وحسب الأريحيات، وحسب الظروف. وذلك حتى تحولت بعض ميادين الثقافة إلى منبر للأحقاد الصغيرة ودسائس الوقت العابرة والمؤامرات التي يدبرها نص خطير ضد نص أخطر منه.

لم نتفق بعد. ولكن هل تعرف لماذا؟

لأننا اثنان، وقلة.

الاثنان، أولهم، مثقف يسير مع التيار والمألوف، لأنه يؤدي وظيفة، وثقافته فيها مجرد حادث سير ساقته إليه الظروف والصدفة، وليس مهما، بالتالي، أن يتسلح بما يكفي من الدراية في المجال الذي يلعب فيه، حتى أنه لا يفعل، عندما يكتب، سوى أنه يصدر أصواتا، لا تسفر عن معطى يفيد أي أحد عمليا.

وثانيهم، مثقف لا يقر أنه عندما وجد نفسه مسلحا بالمعرفة صار يبدو لنفسه أكثر جهلا، فيسارع إلى جعل معارفه الجديدة أحكاما مطلقة، وغير قابلة للنقض.

وقلة، عالمة ولكنها غارقة في محيط من الفوضى والعبث.

في هذه البيئة لا تعود (التجريبية) نوعا من العلم المؤقت في الطريق إلى علم أكثر ثباتا. ولا تعود بحثا عن مفاضلات إبداعية تفوز بمقدار أكبر من الاقتراب من الحقيقة، ولكن مجرد عبث مؤقت. أو قل: زبد لا يصاغ إلا ليذهب هباءً.

كل شيء ممكن في هذه البيئة، إنما ليس كمعطى لتقنيات أو أساليب مدروسة، ولكن ك(إبداع) أقرب إلى كونه بدعة.

وما من بدعة، في السياسة أو الثقافة، يمكنها أن تدخل في حوار مع بدعة مثلها.

البدع تتناحر وتختلف، لأنها بطبيعتها، لا تقبل وجود بدع مضادة. فكل بدعة للأخرى عدو. فكيف إذا أنطوى الأمر على بدع تفترض كل منها أنها رؤى نهائية ومطلقة؟

ولكن، حيثما تقتضي مسالك الحياة أن تواجه الثقافة أسئلة جادة، وتتطلب أجوبة جادة، فإننا نختلف، ولا نخوض حوارا، وحوارنا لا يأتي رصينا، لأننا في الأصل، وفي الغالب، نصدر عن بدعة.

وعندما يكون المثقف هو مثقف البدعة، فبأي معنى يكون الاتفاق ممكنا؟ على أي أساس أصلا؟

- لندن


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة