Culture Magazine Monday  14/01/2008 G Issue 229
فضاءات
الأثنين 6 ,محرم 1429   العدد  229
 

نظريات قراءة النص«2-2»
د. لمياء باعشن

 

 

ثالثاً: معنى القارئ:

عندما نادى رائدا النقد الجديد ويمزات وبيردزلي W. K. Wimsatt and Monroe Beardsley بموضوعية النص في الأربعينيات فقد قاما أيضاً بتحطيم الاعتقاد الباطل في قصدية المؤلف Intentional Fallacy 1946 وفي نتاج التجربة النصية وتأثيرها على القارئ Affective Fallacy 1949 كمصادر للمعنى (Wimsatt and Beardsley 1972,334). أما المقال الذي صدر في 1968م بعنوان (موت المؤلف) فقد أعلن تحرير النص من كونه مجرد صف من الكلمات يفرز معنى محدداً يقصده الكاتب فقط إلى كونه فضاء ذو أبعاد عديدة تتضارب وتختلط فيه المعاني. فالمؤلف سلطة تهيمن على النص ووجودها ليس ضرورياً للمعنى والدليل هو تفاعلنا مع الكتب القديمة مجهولة المؤلف، وعليه فقد صرح كاتب المقال رولاند بارثس Roland Barthes (1915-1980) بأننا (إذا أعطينا النص مؤلفاً فإننا نفرض عليه حدوداً تغلق مداخل الكتابة (Barthes 1977,146). وعلى التوالي فقد شكك نورثروب فراي Northrop Frye في كون المؤلف حكم نهائي يفصل في قيمة العمل الأدبي، وأخذ جاك ديريدا Jacques Derrida في وصف ضمير المتكلم في الكتابة ecriture على أنه (أنا الغائب) لأن فعل الكتابة في نظره يقتل شخص المتحدث ويذيب فرديته في ضمير الجماعة القارئة .(Hoy 1978, 81-82)

وكان الوجه الآخر لاختفاء المؤلف هو ولادة القارئ ليس كمجرد مستهلك بل كمنتج للنص. ترى مدارس جماليات التلقي Reception Aesthetics ومدارس الأسلوبية الانفعالية Affective Stylistics أن معاني النص لا تظهر في نقاط انطلاقه أي مصادره التأليفية ولا في ملامحه الشكلية ولكن في اتجاهاته، أي في خصوصية التجربة التي يتعرض لها القارئ من خلال النص. والقراءة ليست اكتشاف معنى للنص ولكنها الانخراط في تجربة ما يفعله القارئ بالنص. فعملية القراءة عملية ديناميكية والنص بها ليس جامداً بل إنه يعقد علاقة داخلية بين الملامح النصية وبين معارف القارئ. أي أن التنافر الأساسي بين النص والقارئ، هو الذي يولد التواصل بينهما.

لقد فتح البعد التجريبي للمعنى الباب على مصراعيه لكل من قرأ فيصبح بعدها ناقداً للنص. لذلك فقد جاءت من النقاد افتراضات عديدة حول هوية هذا القارئ الذي تسند إليه مهمة إحياء النص الأدبي وبعثه من جديد. وقد اتفق معظم النقاد على أن لكل مؤلف قرين من القراء يكون بمثابة مؤلف مشارك يؤثر في خطاب الكاتب الذي يحضره ويستنطقه ويحاجه ويناقشه، وأن عدم وضوح هذا القارئ المبيت في نية المؤلف في النص لا يعني عدم وجوده. ولكن المؤلف يضع أيضاً في اعتباره قارئاً آخر سماه الإيطالي أمبيرتو إكو Umberto Eco في 1979 القارئ المحتمل Expected Reader الذي يمثل معاصريه ومواطنيه وبني جنسه وطبقته، بينما فاضل بارت Roland Barthes بين نوعين من القراء: الحقيقي Actual Reader الذي يستلم صوراً ذهنية تتشكل تبعاً لمخزون تجاربه الخاصة، والضمني Implied Reader 1974 الذي يتعامل مع بنية النص بشكل نموذجي تحدد وظائفه. وبعدها اخترع جيرالد برنس Gerald Prince مصطلح Narratee: ليفرق بين القارئ المخاطب داخل النص وبين القارئ الحقيقي Actual Reader الذي يمسك بالكتاب وبين القارئ المفترضVirtual Reader في ذهن الكاتب ثم القارئ المثاليIdeal Reader الذي يطمح كل مؤلف أن يحظى بنظرته النقدية الثاقبة. وفي 1978 سمى مايكل ريفاتير Micheal Riffaterre هذا النوع المثالي بالقارئ الخارق Superreader))، وسماه نقاد آخرون القارئ المطلع Informed Reader الذي يستطيع أن يسبر أغوار النص بعيداً عن السطح ويكتشف البناء الداخلي الضمني، أو القارئ الكفءCompetent Reader الذي لديه تمكن لغوي وأدبي وينتمي إلى مجتمع قارئ متفق على مفاهيم فنية معينة.

أما مسألة الممارسة القرائية أو كيف تتم عملية القراءة فقد شغلت العديد من النقاد أهمهم رولاند بارتRoland Barthes الذي يرى أن القارئ لحظة إقباله على النص لا يأتي من فراغ بل يأتي محملاً بروافد ثقافية وأعراف أدبية ووعي بالتاريخ الأدبي وبمخزون من النصوص السابقة والمعاصرة فيتم التأويل في إطار يضعه القارئ بما لديه من فهم مسبق أو معرفة فطرية تشكل البناء القبلي للفهم أي البناء المعرفي والأيدلوجي الذي تنطلق منه عملية الفهم.

أما الألماني وولفجانج آيزر (Wolfgang Iser 1974) فيجد أن النص يحتوي على تصريحات واضحة وكذلك على إخفاءات ضمنية تترك به فجوات يملؤها كل قارئ بطريقته الخاصة تمشياً مع نظرية الجشتالت Gestalt النفسية التي تقدم نموذجاً وظيفياً للقراءة تتكيف فيه الأجزاء بتناسق تام فتشكل صورة ذهنية متكاملة تمكن القارئ من تنظيم المعاني التي تبدو مبعثرة وفوضوية في إطار موحد(Eagleton 1983, 81).

وبذلك يكون للتأويل حركة دائرية Herme neutical Circle تبدأ حين يتناول القارئ نصاً ما فتقوم إشارات النص الصريحة بعمل العناصر المرشدة وتحرضه على تشكيل توقعات خاضعة لما هو ظاهر تتغير بمجرد عرضها على خلفية القارئ الثقافية الرافدة وتجربته الحياتية، ثم ترجع هذه التوقعات المتغيرة لملء الفجوات ضمن الشروط التي يحددها الواضح من النص الذي يتقبل بعضاً منها ويقاوم بعضاً، فتتشكل عند القارئ توقعات جديدة يعرضها مرة أخرى على خلفيته الخاصة التي كانت هي أيضاً قد تغيرت نتيجة لتعرضها لتأثير التوقعات الأولى، وهكذا تظل توقعات القارئ دائماً في حالة تجديد وتعديل مستمر يتناسب مع تحريضات النص الصريحة فتتكون بذلك دائرة لا تعود بنا إلى نفس نقطة البداية وتكون النتيجة نصاً جديداً (Iser 1995, 24).

والقراءة الناقدة في فكر الأمريكي ستانلي فيش Stanley Fish تتمثل في تحليل التجاوب المرحلي للقارئ تجاه الكلمات المكتوبة التي تتبع بعضها البعض تزامناً في سطور النص وعلى مستوى الجملة المباشر، حيث ينشأ المعنى مبدئياً ثم تتعدل توقعات القارئ شيئاً فشيئاً مع مسيرة القراءة والتوالي المترابط بين السابق واللاحق في مسار النص. وكأن القارئ هنا يتحرك إلى الأمام وإلى الخلف في نفس الوقت، فيتنبأ بالقادم ويقارنه بما سبق، يفك رموز النص جملة جملة ويؤولها على ضوء السابق والمنتظر (Fish 1986, 624).

رابعاً: معنى الناقد:

تخوف بعض النقاد من الفوضى التي قد تعم الساحة النقدية في ظل حرية المعنى والنسبية المطلقة لمسألة التأويل غير النهائية. لذا فقد رأوا أن من الأفضل وضع سياج يحد من معاني القراءة الممكنة للنص. يقول الأمريكي جوناثان كولر Jonathan Culler إن عمليات التأويل ليست فردية بل جماعية وتتبع إجراءات تقليدية مكتسبة ومتفق عليها بما تمليه قوانين اللغة والأجناس الأدبية والتراث والإيديولوجية الاجتماعية والثقافية. المجتمع القارئ هو مجموعة من الأفراد المشتركة في مفاهيم متفق عليها تشكلها مجتمعاتهم في عصر معين. وهذه الجماعة Interpretive Community تعطي المعنى المناسب لإحساسها بالواقع الخاص بها (Culler 1981,125).

ومن نفس المنطلق يفسر هانز روبرت ياوس Hans Robert Jauss 1960 مسألة اختلافات قراءة النص الواحد بوضع النص في آفاقه التاريخية قائلاً: إن قراء كل عصر هم نتاج ظروف عصرهم Paradigms التي تشكل لديهم آفاق التوقعات Horizons of Expectations والتي بدورها تخضع لمفاهيم اجتماعية تتغلغل داخل النص وتحافظ على وحدته الجمالية وتفرض القوانين التي يلتزم بها القارئ في حكمه على النص. ليس للنص إذاً معنى مطلق بل إن هذا المعنى يتغير حسب اللحظات التاريخية لتلقيه، فلكل حضارة أفق توقع يشمل مجموعة المفاهيم التي تسهم في تشكيل المعنى المحدد لها، وهذه المفاهيم تبقى سائدة حتى يطرأ ما يغيرها فتنتقل الحضارة إلى بارادايم جديد وعصر جديد (Jauss 1982,24).

وهكذا فقد تبين لنا أن نظرية قراءة النص ليست عنصراً واحداً بل إنها تضم العديد من الاتجاهات التي تحاول أن تشرح طبيعة عملية القراءة وما يترتب عليها من التفاعلات التي تفتح آفاقاً تأويلية واسعة. النص شيء منسوج ولذا فهو نسيج يتكون من خيوط المرجعية التاريخية والممارسات الاجتماعية والدلالات اللغوية. النص نسيج متداخل يدفع إلى شبكاته بالقارئ الذي هو جزء من النسيج الاجتماعي ليساهم بقراءته في تأويل ما سكت عنه النص: يقول سارتر إن القارئ حين يفتح كتاباً ما فهو (يضع نفسه على قمة الصمت) Sartre 1986,487). ) ونحن عندما نقرأ فإننا نصغي في الواقع لصوت المؤلف الذي ينقلنا بموافقتنا إلى عالم خيالي متكامل له مصداقية الواقع، وهذا الإصغاء للصمت هو الأساس في إمكانية الانتقال. نحن نصغي بذاكرتنا لا بآذاننا، أي بعقولنا الميتافيزيقية، وهنا يكمن سحر القراءة التي تأسرنا في نطاق الصمت فتحقق جمالية التقبل من خلال التغلب على تحديات التأويل في توازن بديع.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة