Culture Magazine Monday  14/01/2008 G Issue 229
فضاءات
الأثنين 6 ,محرم 1429   العدد  229
 

الشعر العامي موهبة ودلالة(3)
د. عبدالرحمن الفريح*

 

 

إن نتيجة المقارنة بين الشعر الهلالي والشعر العامي النجدي في بدايته تسلمنا إلى الجزم بأن الشعر العامي بلهجة أهل نجد وليد الشعر الهلالي العامي، قال ابن خلدون يصف منهج شعر العرب في عهده من بني هلال وغيرهم: (فأما العرب أهل هذا الجيل المستعجمون عن لغة سلفهم من مضر فيقرضون الشعر لهذا العهد في سائر الأعاريض على ما كان عليه سلفهم المستعربون ويأتون منه بالمطولات مشتملة على مذاهب الشعر وأغراضه من النسيب والمدح والرثاء والهجاء ويستطردون في الخروج من فن إلى فن في الكلام وربما هجموا على المقصود لأول كلامهم.. وأكثر ابتدائهم في قصائدهم باسم الشاعر ثم بعد ذلك ينسبون). وعن شعر العامية في جزيرة العرب قال الدكتور طه حسين: (إن في الجزيرة العربية أدبين مختلفين: أحدهما شعبي يتخذ لغة الشعب أداة للتعبير لا في جزيرة العرب وحدها بل في البوادي العربية كلها: في الشام ومصر وأفريقيا الشمالية. وهذا الأدب - وإن فسدت لغته- حي قوي له قيمته الممتازة من حيث إنه مرآة صافية لحياة الأعراب في باديتهم، وهو في موضوعاته ومعانيه وأساليبه مشبه كل الشبه للأدب العربي القديم الذي كان ينشأ في العصر الجاهلي وفي القرون الأولى للتاريخ الإسلامي. ذلك لأن حياة العرب في البادية لم تتغير بحال من الأحوال، فحياة القبيلة الاجتماعية والسياسة والمادية الآن كما كانت منذ ثلاثة عشر قرناً). فطبيعي إذن أن يكون الشعر المصور لهذه الحياة كالشعر الذي يصور الحياة القديمة وأن يكون موضوعه ما يقع بين القبائل من حروب ومخاصمات تدعو إلى الفخر والمدح والهجاء والرثاء وما يثور في نفس الأفراد من أنواع الآلام واللذات التي تدعو إلى الغناء بالشكوى حيناً والحب حيناً آخر والعتاب مرة ثالثة. والقصيدة العربية الشعبية الآن كالقصيدة العربية القديمة تبدأ بالغزل القليل البسيط المؤثر، ثم تنتقل إلى وصف الإبل والصحراء فتطيل في ذلك ثم تصل غرضها من مدح أو فخر أو غيرهما من فنون الشعر، ومثال ذلك يقال في الخطابة، فالبدوي الآن فصيح كالبدوي القديم، حلو الحديث محب للسمر والقصص إذا اطمأن واستراح، خطيب بليغ إذا كان بينه وبين غيره خصومة أو جدال، وهذا الأدب العربي الشعبي يرويه في البادية جماعة من الرواة يتوارثونه عن آبائهم ويورثونه لأبنائهم ويكسبون بروايته حياتهم المادية ومكانتهم الممتازة أحياناً. ولسوء الحظ لا يعني العلماء في الشرق العربي بهذا الأدب الشعبي عناية ما، لأن لغته بعيدة عن لغة القرآن، وأدباء المسلمين لم يستطيعوا بعد أن ينظروا في الأدب على أنه غاية تطلب لنفسها وإنما الأدب عندهم وسيلة إلى الدين).

أما الأدب الآخر فهو أدب تقليدي لا يكاد يوجد في البادية وإنما مركزه الحواضر عادة، وهو أدب قد اتخذ لغة القرآن أداة للتعبير. وإذا كان الأدب الشعبي مصوراً للحياة العربية البدوية تصويراً صادقاً ممتازاً، فإن الأدب التقليدي بعيد كل البعد عن هذا التصوير. ذلك لأنه متكلف مصنوع لا صلة بينه وبين الطبيعة الحرة، فهو لا يعكس ما يحسه الشعراء والكتاب، وإنما يمثل ما يريد الشعراء والكتاب أن يضعوه فيه. حظ النفاق فيه أكثر من حظ الصراحة، ثم هو تقليدي لا يصدر فيه أصحابه عن أنفسهم وإنما يقلدون فيه أهل الحواضر من المصريين والسوريين والعراقيين. كذلك كان أدباء المدن في جزيرة العرب طول القرون الوسطى وكذلك هم الآن. ونستطيع أن نؤكد أن أهل الحجاز يستمدون أدبهم التقليدي من مصر والشام بنوع خاص، وقد يتأثرون بغير المصريين والسوريين من الذين يفدون عليهم للحج ولكن كتبهم التي يدرسونها في مكة والمدينة من الكتب التي يدرسها المصريون في الأزهر، وشعرهم الذي يقرؤونه أو يحفظونه هو الشعر الذي يقرأ ويدرس في مصر والشام، فهم إن أرادوا أن يكتبوا في العلوم الدينية قلدوا المصريين كما أنهم يقلدونهم في الدرس، وهم إن أرادوا أن ينظموا الشعر قلدوا المصريين والسوريين).

مهما يكن من أمر هذا الذي يذكره الدكتور طه حسين بجملته وعموميته فإن الشعر موهبة وملكة فطرية لا تتأتى لكل إنسان وهي من الموروث لا المكتسب ومن غير أن نصنف هذا الشعر إلى فصيح وعامي أو نوزع عليه المسميات فهو شعر يفرض نفسه، وانحراف اللسان عن الفصحى نحواً وصرفاً لا يعطل الموهبة ومعنى هذا أن الشاعر شاعر فطرة فإذا نظم بالفصيح أبدع وشرطه شاعريته، وليس من حق أحد أن يتطاول على الموهبة فيكبتها أو يلغيها.. فالشعر هو الشعر ملكته واحدة ومن استطاع أن يقول العامي وأجاد اللغة قال الفصيح دون مناقشة فما الشعر العامي إلا الشعر الفصيح باختلاف التعبير لغةً لا غرضاً.

للشعر العامي كالفصيح قدرة على التأثير تأتي من قوة الشاعرية لدى الشاعر وإذا صقل الشاعر موهبته بالمران والدربة تفوق، وإذا نظرنا إلى الشعر العامي في الجزيرة العربية وجدنا أن الشاعر يرتسم خطى أهل الشعر الفصيح القديم في المعاني والأخيلة وليس من ذنبه انحراف اللغة التي لنا أن نسعى إلى الرقي بها ولكن ليس لنا أن ننكر على من ينظم بالعامي أو أن نلغي شاعريته، وللشعر العامي في قديمه فائدة علمية كما أسلفت لا يجب أن يغفل عنها الباحثون ولا الهيئات الثقافية والمراكز العلمية وتتحقق هذه الفائدة في توثيق الوقائع الحربية والحوادث الاجتماعية وذلك من خلال شعراء انصبت قصائدهم على العناية برصد حركة التاريخ، وتتحقق أيضاً في تعيين المواقع سواء أكانت بلداناً أو جبالاً أو من المناهل والديار، وتتحقق كذلك في مساعدة المهتمين بدراسة اللغات واللهجات في مجال عنايتهم بدراسة الألسنة والتعرف على مراحل تطور اللغة وتغيرها ويقيني أن أهميته لدراسة اللغة ومراحل تطورها وتغيرها إنما هو مما لا يختلف فيه اثنان، ومجال القول في هذا واسع وسلف ما قد يفيد. والجدير بالتأكيد هو أن الجامعات العريقة تخصص أقساماً علمية ذات مناهج معروفة مدروسة فيما يعرف باللسانيات والصوتيات لدراسة اللهجات الحديثة وعمدتها الأدب العامي، كما يستأنس المختصون في الدراسات الإنسانية وفي التاريخ والحضارة على وجه الخصوص بالشعر العامي في توثيق الوقائع الحربية والحوادث الاجتماعية من أشعار اشتهر قائلوها بعنايتهم برصد حركة التاريخ، وكما يسعى البلدانيون إليه لتعيين المواقع بلداناً وجبالاً ومنازل للعرب يحلون بها ثم يتحولون عنها، فالشعر العامي إذن مصدر مهم من مصادر البحوث التاريخية في حقبة من حقب تاريخنا المحلي ندر فيها وجود مصادر أصلية يعتمد عليها الدارسون كالوثائق أو الكتب المتخصصة لدراسة تلك المرحلة؛ عن طريق الدلالة التاريخية لهذا الشعر تبقى قيمته العلمية مهمة لا يمكن لباحث أن ينكرها أو يتغافل عنها. وكذا الناحية البلدانية ففي هذا الشعر ذكر للمواقع، والمناهل، والبلدان، والجبال، والأودية، ومن نصوصه يستخرج البلدانيون ما يعينهم على دراستهم المنهجية في تحديد المعالم الطبيعية في جزيرة العرب، بل إن الحاجة العلمية إلى هذا الشعر تبدو ملحة في التعرف على الحياة الاجتماعية إذ هذا الشعر يصور لنا العادات والتقاليد ويقف بنا على أنواع المآكل والمشارب وأشكال الملابس والمقتنيات، فدلالة الشعر العامي دلالة لغوية لمن يهمه أمر الاعتناء باللهجات ودراسة تباين أبناء الأقاليم أو القبائل في النطق، والفروق اللغوية التي توجد بين بعضهم وبعضهم الآخر ومراحل تطور اللغة أو انحدارها، والاعتناء بالشعر العامي من قبل الباحثين والدارسين فضلاً عن المتذوقين، يجعل من رسالة المؤسسات الثقافية والمراكز العلمية توثيق هذا الشعر ودراسته دراسة علمية والإفادة منها وبهذا فإنها تستجيب لدواعي المعرفة المطلوبة منها وشعراء الزمن الحاضر قد لا يكون لشعرهم هذه الفائدة في الدراسات الإنسانية والأدبية والبلدانية واللغوية لكنهم يظلون شعراء، ويظل شعرهم لا يمكن أن نصفه إلا بأنه شعر حي نابض موزون مقفى.

* عضو مجلس الشورى -الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة