Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 
لا بد من صنعاء وإن طال السفر...

 

 

متابعة: علي محسن المجرشي - إعداد:فوزية محمد الجلاّل

حملتني الصدفة - التي اختبرت اليوم أنها (خير من ألف ميعاد) - إلى الأرض السعيدة (اليمن)، وتحديداً (صنعاء)، تلك المدينة التي أحبها وتغزل بها شعراء اليمن والعرب وبعض العجم. كانت رفيقتي في تفاصيل هذه الرحلة، العروس الصنعانية المثقفة (أمة الخالق). أخذتني في رحلة إلى عمق التاريخ اليمني، حيث سد مأرب وشداد بن عاد وإرم ذات العماد، حيث سيف بن ذي يزن، وحكايات عرش بلقيس ووضاح اليمن وصاحب الأخدود، وألف حكاية وأسطورة موغلة في سراديب الزمان. وعرجنا على بيوت صنعاء القديمة وقمرياتها، وسوق الملح والزبيب والبخور واللبان، وسمسرة النحاس والعقيق. وتوقف بنا الزمان والمكان عند (دار الحجر) أعجوبة معمارية امتلأت بالأسرار والحكايات التي تأخذك إلى زمن صعب اختلطت فيه الحقيقة بالأساطير، والدماء بالبطولات، وهناك في مقهى حجري بقيت آثاره تعاند الزمان، طاب لنا الحديث على نكهة القهوة اليمانية، عن (بوابة صنعاء الثقافية) الشاعر والأكاديمي والناقد الدكتور (عبد العزيز المقالح)، مهوى أفئدة اليمنيين وزوارهم،كان حديثاً شجياً طويلاً عن المقالح الزاهد، عن خطواته في الضوء والعتمة إلى مسجد الخير المتاخم لبيته، عن ابتهالاته ومناجاته لرب الأرض والسماء أن يرسل رحمته مدراراً على محبيه وعابديه وشاكريه، وأن يكفيهم شرَّ أعدائه وأعداء الدين، عن سجوده الطويل بين يدي خالقه يشكو ظلم الإنسان للإنسان وهجمة مرجعيات التأويل على ضمائر ونوايا المؤمنين. ويردد في يقين ينهل السقيا من روحه: (حسبي وحسبهم الله).

حدثتني عن تلك العلاقة المتفردة بين اليمنيين وشاعرهم، الذي جعل من منزله مزاراً يومياً للعامة قبل الخاصة، واستبدل (بمقيل القات) الشعر والثقافة والجمال، وارتقى بالقصيدة اليمنية إنجازاً ونقداً وتنظيراً، تجاوز بها تخوم المحلية إلى شراكة الصدارة الشعرية العربية. لقد منحته الريادة باستحقاق، وسام (الأب الروحي) للثقافة اليمنية الحديثة ونافذتها الوضيئة.

قالت لي مضيفتي: لم يجمع اليمنيون على شخص وقيمة ضاهت (عبد العزيز المقالح) لقد أحاطوه بهالة من الحب والإكبار لم يسبق لها مثيل معاصر، وامتزج في فكر ووجدان الإنسان اليمني على نحو آسر، فأصبح لا يكتمل إلا بالحديث عنه! وتساءلت: هل هي الريادة، أم ثراء التجربة، أم الفعل الوطني، أم سحر شخصي أم هي مجتمعة؟

استطاع المقالح بشعره ونثره أن يلغي المسافات بين حاضر اليمن وأمسه، متجاوزاً حواجز الزمان والمكان، ومتنقلاً بين العصور والرموز بأناشيد تردد صداها الجبال والسهول والوديان...، لقد أعاد التاريخ اليمني إلى الحياة وجسد صوره وأشخاصه وأحداثه حتى بدت حاضرة لا تغيب. ولن يكون الحديث عن (المقالح) حقيقياً إذا لم يرتبط بالحديث عن (صنعاء). عن عشقه الباذخ لهذه المدينة المسورة بالتاريخ والحكايات حتى أخمص قدميها، صنعاء الجاثمة في دعة على أعتاب التاريخ، ينهض بها(المقالح) من مغاور العصور الغابرة، وينتشلها من قسوة الزمان والمكان، ليضعها على متن سحابة، يهدهدها ويتغنى بتفاصيلها:

( في أعماقِها كَنْزٌ مخبوءٌ / للحلمِ / وفي رحابِها تقامُ الأعراسُ البهيّةُ / وتولدُ منْ الحجارةِ أشكالٌ / وترانيمُ / ويكتبُ اللَّونُ الأبيضُ / قصائدَهُ الباذخةَ / ويدوِّنُ اللَّيلُ أساطيرَهُ المثقلةَ / بعناقيدِ الشَّجَنِ / ومجامرِ الأطيابِ..).

يقول (جمال حمدان): (إن صناعة الشاعر للمكان جزء من خلق عبقرية المكان)، وقد حضر المكان بكثافة في نسيج قصائد المقالح، كمكون ذهني إنساني عميق، فلا تكاد تخلو قصيدة أو ديوان أو دراسة له من ذكر رمز يماني: غيمان، غمدان، باب اليمن، مأرب، بلقيس، وضاح اليمن،.... أما (صنعاء فوطن اكتمل به! حتى إنه لم يغادرها منذ ثلاثين عاماً! وكأنه يخشى أن تتسرّب من بين أصابعه ذات سفر. قصائده فيسفساء لكل ما هو صنعاني: البيوت، الشوارع، الجبال، الوديات، الحجارة، النقوش، الرموز، وعشرات الأمكنة التي تمتد على مسافات التارخ والذاكرة، لقد حولها شعره ونثره إلى رمز وطني بامتياز:

(هيَ في عمرِ سامِ (ابنِ نوحٍ) / قصورٌ معتَّقَةٌ / وشبابيكُ منْ فِضَّةٍ / الحمامُ الذي اخْتَطَّها بعدَ أنْ هدأَ الغَمْرُ / وانحسرَ الفَيَضانُ / يحلِّقُ فوقَ نوافذِها / ويغنّي لأسلافِهِ / للقناديلِ تومضُ في أوَّلِ اللَّيلِ / للضوءِ يرقصُ فوقَ التلالِ / وللأغنياتِ القديمةِ تنسابُ رقراقةً في الشوارعِ / دافئةٌ / ومُدَثَّرةٌ بالبخورِ البيوتُ / الميادينُ مبتلَّةٌ بالأحاديثِ / والمفرداتِ الطريَّةِ / ماذا يقولونَ؟/ وتمسحُ بالعطرِ أشجارَها المثمراتْ..)

إنها (مدينة الروح) كما يحلو له أن يسميها، وهي (سيدة الضوء) و(سيدة في اكتمال الأنوثة) و(بلدة طيب ماؤها)... يتساءل في دهشة:

(هل هطلت من كتاب الأساطير؟ / أم طلعت من غناء البنفسج ؟ / أم حملتها المواويل / من نبع حلم قديم ؟!)

(يا لصنعاء / سيدة لا تبيح السفور / وترفض أن تقرأ الشمس / أن يقرأ الليل أوراقها / أو يلامس سر الطلاسم في اللوحة الغامضة...).

هذا العشق ل(صنعاء) إلى حد التماهي، المدينة القاسية التي تضج بالتناقض ووعورة الزمان والمكان، وهو ابن (إب) الأرض الساحرة أرضاً وطقساً، ظل مثار أسئلة، يجيب عنها بالمزيد من القصائد التي تهطل بكرم على (سيدة الضوء) وتجلياتها الروحية والتاريخية.

(... وأزعم أن كل ما في القاموس العربي من مفردات وما في الكتب من عبارات لا تستطيع أن ترسم أبعاد الدهشة التي تمتلكني عند رؤية صنعاء عن قرب وهي مغمورة بشمس الظهيرة وما يتدفق على واجهات المنازل من كميات الضوء. لحظتها كانت المآذن المستقيمة البيضاء ونوافذ البيوت المطلية بجص يشبه الفضة في أزهى حال من التوهّج واللمعان. وقد يكون الشعر في وقت متأخر استطاع أن يلتقط ما تبقى في الذاكرة من آثار تلك الدهشة).

(لكَ أن تشرب قهوتك الليلة / في أي مكان / في روما أو باريس / وأن تشربها بالقرفة / أو بالهال / وباللبن الطازج أو بالعسل الجبلي / لك أن تختار مكانك / في مقهى مغمور بالضوء الباذخ / أو مطلي بالعتمة / لكنك لن تتذوق فنجاناً / أشهى من فنجان صنعاني / يأخذ شكل بخار الغيمة / وهي تبلل جفن صباح / يفتح عينيه الخضراوين /على جبل تكسو عري حجارته / أشجار البن).

إنها مدينته، وموطن حلمه، وجميلته التي يقاتل التنين من أجلها، يحملها في قلبه ووجدانه كلما طوقته الغربة والحنين، أو الألم والانكسار، أو السعادة والفرح، وينشدها مواويل مخضبة بالشجن:

(حين أدخلها تومض أشجار ذاكرتي / وأراها بأطمارها تتوهج عارية / تحت جمر الظهيرة / أذكرها / طفلاً بعينين ذاهلتين كنت / رأيت مفاتنها / وبقايا (البرود) / وتابعت نبض خطاها / وشريت الشذى / واستحمت جفوني بماء الظلال ).

يقول الدكتور عبد الله الفقيه الأكاديمي والكاتب اليمني، في وصف علاقة الشاعر بالمدينة: (لقد تمكن المقالح بشعره ورؤاه من ردم الفجوة التي تفصل بين المدينة وتاريخها العريق..كانت صنعاء قبل المقالح مجرد سجن ومقبرة وظلام دامس. ثم أصبحت بفضل المقالح حباً يسكن أفئدة اليمنيين ورمزاً مكثفاً لتجربتهم ومعاناتهم وحزنهم الكبير الذي يتدفق من أعماق التاريخ...).

وإذا غادرنا هذا الجزء الحميم من شعره، سنجد نصوصاً تترجم، بما لا يقاس، انكسارات إنسان، لم يجد معادلاً موضوعياً لها إلا الكتابة عنها بذات الكثافة التي تترجمها خسارة (الوطن)، إنه الحزن، ثم الحزن، هذا المارد السادي، الذي استوطن معظم قصائده، واعترف بأنه كان زاد قلمه وزوادة روحه:

(تقرح جسدي أكلت ثعابين الصمت لساني وكادت العين تكف عن الإبصار فرجعت إلى الكلام إلى الشعر ولكنه هذه المرة ليس عن الحب ولا عن الثورة إنه عن الحزن الذي كان ملهمي ومعلمي رغم أنفي!).

(إذا صح أني شاعر فقد أصبحت كذلك بفضل الحزن)!

ومن بين عشرات قصائد الأحزان، استوقفتني (بكائيات) موغلة في الشجن، وموجعة حتى البكاء، رثى فيها رحيل أمه فبكى وأبكى، قصائد يتم ولوعة تؤطرها أوجاع لا تهدأ ولا تنام، هي الوزن والمعنى، والشكل والمضمون. لا مست لغة حزنه جراحي التي ما زالت مشرعة للريح واليباس، حين ارتطمتُ بالفجيعة وجهاً لوجه، في ليلة شتائية أمطرت في روحي شقاء العمر القادم، إنه إرث الحزن المقيم، وقبضته الخانقة، وغربته التي لا تشبه إلا الموت نفسه:

(أين أرمي برأسي / على أيّ صدرٍ/ وقد رحلتْ عن تخوم المدينة / كلُّ الجبالِ وكلُّ الغيوم / وغاب الفضاءُ الذي صنعته من الحب أمي / وحتى السحابةُ / تلك التي رافقتني زمان الهجير/ وكانت تغذي بألوانها فرحتي / رحلتْ كأصابع أمي / أين تأوي وقد ذهبتْ ؟ / ولمن تشتكي جرح قلبكَ ؟/لم يبقَ غير روائحها /في بقايا المكان / وفي الورد / لم يبقَ غيرُ أحاديثها في بقايا الزمان / وا أسفاه / يموت الجمال إذا ماتت الأم /وا حسرتاه /يموت الحنان إذا ماتت الأم /تَغرُب شمس الحياة كما غربتْ /حين شالوا على النعشِ أمي).

(يقولون لي سوف تنسي / مضى الوقت مذ رحلتْ / والدموع التي تتحجر في القلب / صاحيةٌ ليس تنسى/ وليس تنام).

الحديث عن صنعاء والمقالح بحر لا ساحل له، ولن تكون هذه السطور مجاله، فالملف أثري بأقلام من خبروه وعاشوه وقرؤوه، قيمة وذاكرة إبداعية وإنسانية تستحق أن تُروى.

وتبقى كلمة عرفان:

شكراً صنعاء.

شكراً أمة الخالق.

شكراً للأستاذ سعيد الشدادي، الذي كان همزة الوصل بين (الثقافية) ومبدعي اليمن.

وشكرٌ خاص وحميم للدكتورة/وجدان الصائغ، أحد الأصوات الإبداعية العربية التي استوطنت (صنعاء) أرضاً وروحاً، وأثرت التجربة الإبداعية اليمنية الحديثة - دراسةً وتأليفاً - باقتدار، وكانت - رغم ارتباطاتها الكثيرة - حاضرة مع (الثقافية) في مراحل إعداد هذا الملف.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة