Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 

مسيرة يمانية رائدة
زيد بن علي الفضيل

 

 

عبقت اليمن بالعديد من رياحين زهر كثير من الشخصيات العلمية الخالدة، التي أينعت أوراقها بغرر الفوائد الفريدة، والدرر النفيسة خلال مختلف الحقب التاريخية، فكان أن ارتسمت صورهم على ضفاف الأودية، ونُحتت أقوالهم في أعالي الجبال الراسخات، وتناسخت أنفاسهم المعرفية فوق الغيوم، وعبر خيوط الزمن، لتشرق وضاءة مع إشراق كل عهد، وتَبسُّم كل صبح، فتخلد صورهم الذهنية، وسماتهم المعرفية في أذهان وأنفاس كل متيم بنفيس المعرفة، وكل عاشق لبريق الكلمة وصفاء الإحساس.

إنها اليمن موطن العروبة، التي إذا ما ذكرت ذكر معها الكثير من الأسماء اللامعة في شتى فنون المعرفة، كالحسن الهمداني، ونشوان الحميري، وعمارة اليمني، وموسى بن بهران، والسيد محمد بن إسماعيل الأمير، والقاضي محمد بن علي الشوكاني، والعلماء والأدباء من آل الرصاص، وآل الإرياني، وآل الأكوع، وآل السياغي، وآل أبي الرجال، علاوة على العديد من الأسر العلمية الهاشمية كآل شرف الدين، وآل الوزير، وآل المؤيد، وغيرهم، مرورا بالعديد من جيل رواد حركة النهضة الثقافية خلال النصف الأول من القرن العشرين كالسيد العالم أحمد الوريث والسيد العالم أحمد المطاع والقاضي الأديب محمد الزبيري والقاضي الأديب إبراهيم الحضراني والسيد العالم زيد الموشكي والسيد الأديب أحمد بن محمد الشامي والشاعر الأستاذ عبد الله البردوني، وصولا إلى صاحبنا الدكتور الأديب عبد العزيز المقالح، الذي مثل بأدبه وعلمه وثقافته امتدادا جوهريا لعبق مخزون ذلك التراكم الثقافي، واختزل في ثنايا وجدانه الإبداعي كثيرا من سمات توجههم المعرفي، القابل بوجود الآخر، المنفتح على آفاق الحوار، الرافض لكل ملامح العنف والإقصاء الفكري، الداعي إلى نشر قيم التفاهم والتسامح، لهذا جاءت شخصيته مكتنزة بأريج قيم تلك التسامح إزاء كل من تطاول عليه بالإقصاء والتكفير جهلا وعدوانا، داعيا كل من هاجمه إلى التروي وتغليب حسن النية امتثالا لأمر الله جل وعلا في محكم كتابه الآمر نهيا باجتناب بعض الظن، مبينا عمق خطورة النظر بسوء النية إلى مختلف الأعمال الفنية الإبداعية لكون ذلك لا يأتي إلا بالكوارث بحسب رأيه المعلن دائما.

وهو أمر يتفق معه في مراميه كل ذي حس إيماني، وقلب مفعم بذكر الله، ولاسيما وأن كثيرا من الأعمال الإبداعية التي نظر إليها ذوي النفوس الضيقة والأذهان المغلقة، بعين كلها السخط، تدخل ضمن دائرة القاعدة الشرعية الناصة على أن ناقل الكفر ليس بكافر، إذ كم من الآيات البينات في كتاب الله العزيز، المحفوظ بحفظ الله، المروي عن رسوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، التي تجهر بمعصية الله والكفر به، ونحن نتلوها سرا وجهرا، فرادى ومجتمعين، دون أدنى معصية أو إثم، لكونها قد جاءت على لسان أصحابها من المشركين الكافرين، وليس على لسان قارئيها من المؤمنين المتبتلين، والأمر كذلك، مع الفارق، في كثير من الروايات والقصائد الإبداعية المشخصة أحوالا وسلوكا، أقوالا وأفعالا، لقوم آخرين، لا يمتون بالضرورة إلى إيمانيات وقناعات الحاكي، أيا كان ذلك الحاكي، وأيا كانت إيمانياته.

هكذا ببساطة تولدت مشكلة سوء الفهم بين المبدعين الذين يمثل الدكتور عبد العزيز المقالح أحد أقطابهم، وبين أنقاضهم ممن اكتملت في صدورهم وجدانيات الحالة الإيمانية العاطفية، ولم تكتمل في أذهانهم خصائص المعرفة الإيمانية اليقينية، التي تقضي بمعرفة أسس قواعد أصول الدين، وأصول الفقه، وعلم الآلة، فعرفوا المنسوخ ولم يعرفوا الناسخ، وفهموا العام وغاب عنهم الخاص، وأدركوا المجمل ولم يستوعبوا المقيد، وهكذا، فكان لذلك كله أكبر الأثر السلبي على توجههم الحياتي، وبالتالي على ثنايا وأروقة مجتمعاتهم، مما أوقع الجميع في شرك التصادم والمواجهة، بدل التفاهم والحوار.

أعود فأقول أن الدكتور عبد العزيز المقالح المولود سنة 1937م قد مثل بأفكاره الامتداد الذهني لجيل رواد حركة النهضة الثقافية في اليمن، الذين حملوا على كاهلهم شعلة الإصلاح، ونادوا بضرورة التطوير، فانطلقوا غير مقيدين بمحابس التراث العتيقة، يجوبون ردهات الفكر المستنير شرقا وغربا، دون مواربة أو تردد، ودون وجل أو خوف، فجاءت كتاباتهم النثرية، وأدبياتهم الإبداعية معبرة عن ذلك الجموح المنضبط بقواعده المعرفية، وأصوله العلمية، المتحفزة إلى إعادة قراءة الحقيقة وفق منظور إيماني، ولكن بذهنية حديثة ذات سمات عصرية، كما هو الحال مع الشاعر إبراهيم الحضراني الذي شدد في أحد مقالاته المنشورة في مجلة البريد الأدبي اليمنية سنة 1945م على أن البؤس والشقاء الدائم ليس هو السبب الرئيسي في تأخر الحياة الأدبية والثقافية في اليمن، وإنما ذلك راجع - بحسب تعبيره - إلى: (حرص اليمنيين على التقاليد وتشبثهم بها، واعتقادهم أن الخير كل الخير والنبوغ كل النبوغ، هو في محاكاة الأقدمين والتقليد الأعمى لهم)، كاشفا في المقال ذاته عن وعي كبير بظروف تطور الأدب الغربي، من واقع تشخيصه لحياة بعض أشهر أدبائه حين قوله: (وهل عاش فرليني ورامبو من أدباء الغرب، والمعري وابن الرومي من أدباء الشرق، هل عاش هؤلاء إلا في أحضان البؤس وفي أودية التشرد والهيام، وبالخصوص فرليني، فإن ترجمة حياته والوقوف على ما جرى له من المآسي، يدع الأديب يتوجع له ويحزن وربما يبكي، فهل منعه ذلك من أن يكون أرحم صوت عرفه الشعر الفرنسي في نهضته الأخيرة..)؛ ولم يتردد المثقف اليمني في هذا السياق في مناقشة عدد من مسائل المعرفة الدينية بحرية مطلقة، كفعل الأستاذ أحمد الحورش الذي عمل على نفض غبار التقليد والتراتبية الفكرية من أذهان مجالسيه، وشحذ عقولهم لإدراك معان تنويرية جديدة، عبر عديد من المواقف المباشرة مع طلابه الباحثين عن حقيقة المعرفة، حيث يكشف السيد أحمد الشامي في مذكراته عن عميق دهشته من استخدام الأستاذ الحورش للفظة (أطالع القرآن) بدلا من لفظة (أدرس القرآن) أو (أتلوا القرآن) بحسب ما جرت عليه العادة، مبينا أن الحورش كان قد قصد بذلك حث سامعيه على الانعتاق من قوالب ومسلمات التفكير التقليدي، والتطلع لأفاق المعرفة بصورة صحيحة.

بهكذا توجه، أخال الدكتور المقالح قد ترجم رؤى وأبعاد وذهنية مجايليه من رموز جيل الرواد الذين تتلمذ على يديهم، واقتبس نور المعرفة وبصيرتها من ثنايا أفواههم، فجاءت إبداعاته متناغمة في مضمونها العصري المتجدد مع وتيرة تجدد الحالة المعرفية عند سابقيه، دون إنكار أو رفض أو تشكيك لمختلف الثوابت الإيمانية اليقينية، التي تمثل جوهر كيان الفعل الثقافي عند كل جيل رواد حركة النهضة في اليمن، لكونهم نتاجا لقواعد وأصول المدارس المسجدية، وبالتالي فقد كانوا امتدادا طبيعيا لسياقات مشهد الحالة الدينية بكل تفاصيلها، لهذا جاءت قصيدته الموسومة ب(خمس لوحات) المهداة إلى أساتذته شهداء الثورة الدستورية سنة 1948م، التي يشير اختياره الإرادي للعدد المحدد بالرقم خمسة فيها إلى أركان الإسلام الخمسة كذلك، وهي تمثل قطعا عمود الدين ومرتكزه، جاءت معبرة عن ذلك الامتداد للسياق الديني بشكل كبير، ومتناغمة مع حقيقة جوهر السمات الدينية للشخصية الثقافية اليمنية، التي يعتبر المقالح أحد امتداداتها الفكرية والإبداعية، وكان الدكتور المقالح قد تمثل في لوحته الأولى شخصية أقدس الأطهار سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، فيما عبر في لوحاته الأربع الأخر عن شخصيات صحابته وآل بيته الطاهرين، فكان حديثه عن الصديق أبي بكر، والفاروق عمر بن الخطاب، والباب (بحسب وصفه) للمعرفة والبيان علي بن أبي طالب وفقا لما جاء في الحديث النبوي المشهور (أنا مدينة العلم وعلي بابه)، وأم أبيها الزهراء الطاهرة البتول، رضوان الله عنهم أجمعين، بألفاظ عذبة رقراقة، بث فيها ومن خلالها آهاته وشجونه على عهود مافتئ أقوامها ينكثون بقيم أسلافهم، دون خشية أو ريبة، فلا مساواة باقية، ولا صدق مستشر في ثنايا أمة اشتهرت بالصديقين، وغاب عنها العدل، واختلفت فيها أوجه الحقيقة، وتاه الناس في عتمة الظلام حين فقدوا تلمس شمعة بصيرتهم، وما أجمل قوله في ذلك وهو يخاطب الزهراء بضعة المصطفى:

هي سيدة من شعاع، وعطر

تماهت مع النور حين تسير،

تضيءُ النجوم الأليفة في خطوها،

وعلى الأرض عطر شمائلها،

تتضوع منه الدهور، ولا ينتهي.

من رنين اسمها يصعد الضوء

تورق أحجار مكة، تخضر صحراء نجران..

سيدتي

كل ليل له نجمة تتحدى الظلام

سوى ليلنا لا نجوم به،

أطفأ الحقد أحلام كل الرجال.

ما أجملها من كلمات يفوح من بين ثناياها عبق إيماني يماني، تجلت أبهى صوره الشفافة في عديد من كلماته الرقراقة قبل وبعد ذلك، ومنه ما صدح به منشدا، يناجي فيه ربه بتبتل وخشوع أهل الله العارفين الخائفين، حيث يقول في قصيدته (بياض اليقين):

أفوض أمري إلى الله

لم يبق ظل، ولا طلل،

كانت الأرض ساقطة

والفضاء غريبا،

ولا نبض للكائنات..

كأني الوحيد الذي نَسيتْهُ قرون

من الموت،

أخفَتْهُ في كهفها الكلمات،

ولم يدر أن القيامة قامت،

وأن جميع الخلائق في قبضة الأبدية..

ويلاه..

إني أفوض أمري إلى الله

أقرع أبوابه بدموع تكسَّر مرمرها

في محيط من الظلمة القاتلة.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة