Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 

(صنعانيَة.. كان الزمن ظمآن)
عبدالله ثابت

 

 

وهذه النسمة الصنعانية الطيبة، عبدالعزيز المقالح، تؤثر بي، وأدرك يقيناً أني لست وحدي مَن عبرت تلك الروح الجميلة إلى عمق نفسه، بكل ما تتمثله من العذوبة والهدوء وهيبة سنواته السبعين، وبكل الساعات السليمانية.. ومن تلك الجبال الجليلة الخضراء، ومن تداعيات السحب والمواعيد الخائفة والأمطار، ومن الوجوه المتزاحمة على الذاكرة بحزنٍ وفزع، من الأجساد المهدودة من الأمل والفاقة، من الحب القرويّ البريء، الذي يشبه رائحة الجذور الرطبة، من الماء والعناقات الأخيرة والفقد، من الاحتجاج والخوف والأرق، ومن الإنشاد.. حتى ما تخبئه كل أغنية صنعانية، وهي تحرث الفجر وتبذره شعراً وحكايا!

عرفته بأواخر التسعينات، وكانت تلك سنواتي الأولى التي يتبلل فيها فمي بمعنىً آخر للحياة.. ويا لتلك السنوات، ما أطيب ذكرها وأحلاه على قلبي. أتذكر أنني كنت أروغ هنا وهناك لأحصل على قصيدة، أو لأقرأ قصاصة، أو لألتقط كلمة تلوذ بها وتلجأ إليها نفسي!

وأتذكر يوماً كنت فيه ببيت صديقٍ، وأخرج من جيبه ورقةً مكتوباً فيها شعر، وتحته اسم المقالح، ولم أكن حينها قد عرفته أو عرفت عنه شيئاً، لكن ما قرأته في تلك الورقة غشّاني بشعورين نقيضين، أولهما كان كمسحة أمانٍ سريعة النفاذ إلى النفس، والآخر كان شيئاً أشبه ما يكون بشحنة كهربائية هائلة، اندفعت بكامل سخونتها على قلبٍ غافل.. هكذا:س

إلهي

سأعترف الآن إنِّي خدعت العصافير،

إنِّي هجوت الحدائق،

إنِّي اختصمت مع الشمس،

إنِّي اتخذت طريقي إلى البحر منفرداً،

وانتظرت الزمان الجميل،

فما كان إلا السراب،

وما كان إلا الخراب،

ولكنني انصعت للشك،

كابرت،

بعثرت نصف الجنون،

ونصف الضمير،

فأدركني دمّل الوقت،

شاهدت نعشي،

خالطت أشياء لا تقبل التسمية!..

ولم يمض على تلك اللحظة الخاطفة سوى بضعة أشهر إلا وأنا في اليمن، ببيت المقالح نفسه، دون أية نوايا سابقة لأكون هناك، ولو أن أحداً قال لي قبلها بيوم إنك غداً ستبيت في ذاك المكان ما صدقته، حيث لا أذكر إلا أنني فجأةً حزمت حقيبةً صغيرة، وقفزت في السيارة، ماضياً بخوفٍ صغير وفرحٍ صغير نحو اليمن، وعصر اليوم التالي كنت هناك، ولم أشعر حينها بأنني فعلت شيئاً غريباً، أو أن الأمور كانت صعبةً وشاقة.. لقد حدث كل شيء في أقل من عشر ساعات، وأذكر أنني دخلت مقيل المقالح وجلست كما لو أنني أعرف أين هو مكاني أنا بالذات. لقد كنت أتصرف بطمأنينة بالغة، كأنني ترددت على نفس المكان ألف مرة قبل ذلك الحين.. وحيناً آخر كنت أتصرف كما لو أنني نذرت أن أفتش في الأرض عن قائل الكلمات التي مسّتني، وطافت بي لأقاصي الشك واليقين معاً.. معاً، في تلك القصاصة. وحيناً كان يغمرني سكونٌ إنسانيٌ خالصٌ وأصيل، وكأن نبرته وهو ينطق ب(إني اختصمت مع الشمس. إني اتخذت طريقي إلى البحر منفرداً) جذبتني وأخذت تختصر الأيام حتى أجلستني فجأةً في بيته، ليس بيني وبينه سوى بضعة أقدام.. وهو متكئٌ على يساره، ساكناً وهادئاً بوقار جليل قبالي، كأنه للتوّ فرغ من صلاة.. ولطالما تخيلت أنني سأرى رجلاً شديد الصمت، يشي وجهه بعذابات نفسه وتأملاتها.. وهكذا كان!

أتذكر كيف راودتني رغبةٌ كامنةٌ في البكاء هناك، وودت لو أني كنت أملك من الجرأة ما أستطيع به أن أقول إنني أريد أن أمشي إلى البحر منفرداً..

وصدقاً.. أشعر أنني مهما قلت أو كتبت عن أثر تلك المغامرة القديمة في نفسي، وذلك المجلس بالذات، وعن تلك الأيام الأولى فإنه يلازمني إحساسٌ شاسعٌ وبعيد بأن ما كان كبيراً جداً، وليس بوسع لغةٍ أن تمضي إلى قاعه سوى لحظات غريبةٍ ونادرةٍ من الانفراد الحزين بالذاكرة، حين تضعني تلك اللحظات بمواجهة نفسي.. نعم لقد كان كبيراً على الأقل لقلبٍ حائرٍ ومختومٍ بالركض والبحث دوماً عن الإنسان والحقيقة، وفي كل مرةٍ لا يجد سوى الرماد والخراب.. كقلبي!

من يلتقي المقالح لأول وهلة يشعر بأن نبضاتٍ روحانية خاصة وشفافة تندلق من قلبه في سائر جسده، وتتحرك في نفسه نزعة صافية للاغتسال والغفران.. هذا ما تتركه ملامحه الآسية، وصوته الهادئ والرحيم. وكذلك فإن طريقته في الحديث والنظر والمشي والجلوس كلها تمنحه جاذبية صل روحانية، وما أكثر ما اتهموه في علاقته بالآخرين بالأبوّة، وما أرقها من تهمة حيث يتهمونه بأنه شجرةٌ كثّة.. لكنهم لا يفهمون أنه لا يعرف حنوّها غير الذين لفحتهم فجاجة الهجير والهرب، ولسعة البؤس المريرة. ولم أعرف أحداً من الذين تورطوا في فتنة الكلمات إلا وهم مبعدون وهاربون، وهذا ما يفهمه المقالح بحسّ عال.. يفهم هذا كثيراً!

حين تدخل إلى مجلس مقيله فإنك ستجد مجلساً بسيطاً، بالغ الحميمية، وفي يسار المجلس لوحةٌ بريشة رسام إيطالي، نسيت اسمه، كانت الرسمة لفتاة صغيرة تمسك بكتابٍ قريب من وجهها، وهي في حالة قراءة خاشعة، وفي الجدار المقابل بعض الكتب والزينة وصورة لأكبر أبنائه، وفي الجدار المطلّ على الشارع نوافذ صغيرة، بزجاجٍ ملوّن، تشفّ عن تلك اللحظة التي تتخلى الشمس عن حدتها وطبعها الحار، وتصبح ناعمةً وحنونة وخاشعة، لحظة الساعة السليمانية..

ذاك المجلس مفتوح لكل أحد، حتى صار كل من يزور اليمن من المفتونين بسحرها، وكل من في قلبه ذرةٌ من شعر منهم لا بدّ أن يزور ذلك المجلس، وقد التقيت عنده بأسماء كثيرة، ربما لو لم يحدث والتقيتهم هناك ما كنت لأراهم في أي مكانٍ آخر، على الأقل في ذلك الوقت، مثل أدونيس ومحمود درويش وسليمان العيسى وكمال أبو ديب وصلاح فضل ومحمد عبدالمطلب وحاتم الصكر.. إلخ، وكذلك التقيت بآخرين صاروا أصدقاء قريبين جداً من نفسي، وكأن في ذلك المكان سرّاً غيبياً من الحب، مثل محمد القشعمي ومعجب الزهراني وجبير المليحان وعبدالوهاب الفارس وليلى العثمان.. إلخ

وفي مجلسه ستلتقي محمد عبدالسلام منصور، صديق عمره، وما أثمن أن تلتقي ذلك الرجل.. إنه أبلغ ما يقدمه المقالح للقادمين من الضيافة، إنه يفتح لهم شاطئاً فسيحاً من المعرفة، مدركاً بأنه لا شيء يمكن أن تقدمه للمؤمنين بجوهر الحياة سوى المعرفة، وما كان أعرف محمد عبدالسلام منصور بذاك الجوع وتلك اللهفة، وما كان أوسع مداه!

عبدالعزيز المقالح.. رجلٌ شديد الحزن والقلق، الحزن على أهل أرضه، على الأشجار والجبال، ويخاف أن يكفّ الغيم عن أن يكون غيماً، وأن تكفّ اليمن عن أن تكون يمناً.. فالدم الذي يضخ في عروقه عربيّ أصيل وحار!

أتذكر أيضاً أنني هاتفته حين ماتت أمّه، وبالرغم من أنه لاذ بالدعاء والشكر، إلا أنني رأيتها في صوته، لقد كانت عيناها ورائحتها، وثيابها تطفر من صوته، وعرفت أنه شيءٌ قاسٍ وبالغ الشقاء أن تغادر الأمهات بعد أن ينجبن طفلاً يخدش قلبه حين يأتي الصبح ولا يسمع الطيور، ويجزم ويعترف لله أنه هو من خدعها.. حتماً إنه لشيءٌ مُرّ أن تمضي أمٌ علمت ابنها كيف يحسّ بالبؤس الذي يعصر بطن هذا الكون، ولا يملك حياله سوى أن يتوجّع، ويغنّي بشعرٍ يقطر أسىً وأسئلةً عن العدالة.. العدالة التي وخز غموضها نفوساً كثيرة، ومع ذلك فهو لا يرى للحياة معنى بلا إيمان، وينطق باسم الله، ينطق بهذه الكلمة (الله) كما لو أنه لا يريد أن يبقى في فمه من الكلمات سواها!

أخيراً..

يا عبدالعزيز المقالح، لعلّ ما سيجبر نفسك الحزينة ألا أحدَ سيقرأ عن أرضك ويسعه أن يتجاوزك، وأكثر من هذا أنْ حتماً سيأتي يمنيون بعد مئات السنين، يغنون في بيتٍ أو بجوار نبعٍ، أو في مقيل كلماتك:

صنعانِية مرت من الشارع غبش،

كان الزمن ظمآن والفجر اشتكى نار العطش

لكنها لما مشت سال الندى

والورد فتّح وانتعش..

صنعانية.. صدر المدينة هش

والشارع تغنى وارتعش

يا صاحب المغنى اقترب،

واجمع صدى الخطوات

واقرأ ما نقش

صنعانية..

قبل النهار، يا ريح، سلم لي على صنعانية

وقبّل الثوب الذي يختال كالموال

يرسم في الهوى الغالي معاني ثانية

قُل للعصافير التي ترضع أغانيها من الصبح

ومن ماء الدوالي الحانية

يا الله رضاك، يا حب

ما مرت من الشارع صنعانية..

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة