Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 

ثلاثيات نقدية في المنظور الفكري للمقالح
د. حاتم الصكَر *

 

 

يحس الباحث إذ يقترب من تجربة المقالح النقدية التي سارت متطورةً باطراد على مدى عطائه الأدبي - إلى جنب تجربته الشعرية، أنها لم تأخذ منها بريقها أو تعيش على هامشها... فهو من بين قلة من الشعراء النقاد ما زالت إسهاماتهم النقدية ذات حضور وتفاعل وتأثير، تتابع الجديد والمستجد في الأشكال والأساليب الشعرية، وتخوض في قضايا النقد وتبدلات آفاقه ومناهجه، وترصد النتاج الشعري وتحلله.

وكثيراً ما يتكرر سؤال تقليدي في حالة الشاعر الناقد، يتمحور حول مدى (موضوعية) أطروحاته النقدية، وفصامها عن - أو توافقها مع- أسلوبه الشعري، ويتبع ذلك أو يسبقه أحياناً سؤال عن جدوى نقد الشعراء ومنهجيته أو أهليتهم لتلك العملية المغايرة كخطاب للكتابة الشعرية الإبداعية.

ويمكن دون شك مناقشة حصر النقد بالناقد أو بالشاعر حتى في مستوى تأويل ما يمكن فهمه من عبارات مثل (معرفة الشعر) و (تمييزه) و(خلقه) فيغدو الأمر متسعاً يدخل فيه جهد الشعراء النقدي، ونقد النقاد من غير الشعراء.

وبذا تنصهر تجارب الكتابة النقدية والإبداعية ويصبح مشروعاً الحديث عن النقاد الشعراء كالحديث عن الشعراء النقاد تماماً.. قياساً إلى تلازم المكونات وتشابك الملكات والخبرات والرؤى.

ولكن هل يستطيع شاعر كالمقالح وهو يكتب النقد التخلص من (خبرته) الشعرية التي يعلم أنها حصيلة موهبة وثقافة وممارسة خطاب متجسد في نتائج يعكس رؤية أو موقفاً؟.

وقد اخترت كتاب المقالح (ثلاثيات نقدية)(1) لتأكيد ما أراه - انطلاقاً من ملاحظة المقالح نفسه حول تشابك مَلَكتي النقد والإبداع - من تلازم نظري وتطبيقي في كتابته النقدية، والإطار الشعري الذي يحيط بتلك الكتابة.

يبدو العنوان في (ثلاثيات نقدية) وصفاً لطبيعة عمل المقالح، فالكتاب يضم ثلاثة فصول أساسية طويلة، أضاف إليها المقالح فصلاً صغيراً، مبرراً ذلك بأنه استثناء يكسر القاعدة من جهة، ويحتوي تجربة شاعر هو نزار قباني يرى المقالح أنه جدير بألا يخلو كتاب يتناول عدداً من أهم الشعراء المعاصرين من حديث عنه. (2)

ولكن فكرة (الثلاثيات) ذاتها بحاجة إلى وقفه، فالنسق الثلاثي يتحكم في إطار دراسات الكتاب، وتتراتب عناصره ثلاثياً بشكل لافت متدرج من العنوان (ثلاثيات نقدية)، وفصول الكتاب الرئيسية الثلاثة، ثم تناول كل فصل منها ثلاث مفردات، هي في الفصل الأول أصوات الشعر العربي المعاصر الثلاثة (الغنائي، الفكري، التجريبي)، وهي في الفصل الثاني تأملات في التجارب النقدية لثلاثة شعراء هم (عبد الصبور، أدونيس، أبو ديب).

وفي الثالث: شعرية اللون لدى ثلاثة شعراء هم (حجازي، محمد عمران، عبد اللطيف الربيع). ويعزز هذا النسق الثلاثي إسناد صفات فارقة لكل مفردة أو عنصر داخل الفصل الواحد.

فالأصوات الثلاثة في الشعر العربي المعاصر مثلاً، يتبعها ثلاثة أنواع من المستويات اللغوية، وثلاثة أنواع من التعامل مع اللغة، كما يتضح في الجدول المرفق.

والملاحظ وجود ثلاثة شعراء يمثلون كل صوت من الأصوات الثلاثة. أما في فصل الشعراء النقاد فيمكن أن نلخص ما توصل إليه المقالح في الجدول الآتي احتكاماً إلى عبارات المقالح نفسه:

الناقد النموذج

القارئ صلاح عبد الصبور

التنظيري أدونيس

الأكاديمي كمال أبو ديب

وفي فصل (شعرية اللون) يتقصى المقالح كيفية استثمار الخبرة الفنية - والرسم خاصة- ممثلاً بأبرز عناصر اللوحة التشكيلية، أي اللون في تجارب ثلاثة شعراء أيضاً، لكل منهم سمة يمكن تلخيصها بعد قراءة تطبيقات المقالح على قصائد هؤلاء الشعراء بالآتي:

العنصر الشاعر

التلوين أحمد حجازي

الإيحاء باللون محمد عمران

الرسم عبداللطيف الربيع

بهذا تكتمل الدورة الثلاثية أو النسق الثلاثي الذي تحكّم في فكر المقالح النقدي، لاسيما في كتابه هذا، وقد تسلسل عبر عاصر خطابه النقدي أسلوبياً أيضاًً، فأوصلنا عبر موجّهات قراءة واضحة إلى مشاركته هذا الانشطار الثلاثي بديلاً عن ثنائيات معاصريه الضدية المتحكمة في الخطاب النقدي العربي الحداثي..

ويحق لنا -وللقارئ- هنا التساؤل عن مغزى النسق الثلاثي المهيمن في هذه المرحلة على فكر المقالح النقدي.

وأرى - محاولةً مني أقرب إلى الحدوس - أن أجد لذلك تفسيراً في تطور وعي المقالح النقدي والشعري والاجتماعي أيضاً، فالثنائيات التي تقدمها الثقافة والسياسة والمجتمع لا تدع خياراً حراً للشاعر والمفكر، فإما... أو. وهذا ما ضاق به فكر المقالح وتجربته الشعرية أيضاً.

لقد كان على جدول جيل المقالح الشعري والنقدي مفردات متقابلة في ثنائيات واضحة، لا مجال للالتفاف عليها، يمكن استخلاصها من كتاباته النقدية والتمثيل لها بالآتي:

- ثنائية القديم والجديد.

- ثنائية التراث والمعاصرة.

- الثنائية الزمنية: ماضي - حاضر.

- ثنائية الأنا والآخر- أو الشرق والغرب.

- ثنائية الشعر والنثر.

- ثنائية الفن والحياة.

- ثنائية الشكل والمضمون.

- ثنائية الوزن والموسيقى.

- ثنائية التقليد والتجديد أو الحداثة والقدامة.

- ثنائية اللفظ والمعنى.

وليست تلك إلا عينات من المهيمنات الثنائية التي ترد حصراً وقسراً لتؤطر الرؤى والمواقف والاختيارات، وفي ظل الإجابة على أسئلتها ب(إما...... أو.....) تتم مصادرة كثير من عناصر الوعي الذاتي والموقف المستقل للكاتب والشاعر.. وسوف يورد المقالح نفسه المزيد منها كما سنرى لاحقاً، لذا نجد المقالح يستبدل بها نسقاً ثلاثياً يهيمن على وعيه وخطابه في الشعر والنقد معاً.

وسنمثّل لذلك بما اعترض عليه صراحة من ثنائيات مثل رفضه لثنائية القديم والجديد التي تتفرع عنها ثنائية زمنية أخرى يمكن ترميزها بالماضي والحاضر، فهو يرى أن محاولته في دراسة أصوات الشعر الثلاثة تهدف إلى (قراءة بعض النماذج الشعرية المعاصرة في ضوء الرؤية النقدية التي تسعى إلى الابتعاد بالكتابة الشعرية، أياً كان عصرها عن المنظور السائد للثنائية الزمنية بين القديم والجديد.)(3)

وهذا الفهم يرتكز إلى الاعتقاد بأن الإبداع الشعري ككل إبداع ليس فيه ما هو قديم أو جديد إلا بالاحتكام إلى التاريخ... ويرى المقالح أن قيمة الفن الحقيقي.. (تكمن في تحطيم الثنائية الزمنية، وفي احتفاظه بجوهرية الموقف الإنساني الخالد ورؤيته للكون، وحضوره إزاء الواقع بكافة ظواهره).(4)

وينبني على هذا الموقف (الثالث) والرافض للثنائية الزمنية التقليدية رفض ثنائية التراث والمعاصرة، والماضي والحاضر، وما يتنوع عليها من انحياز صارم إلى أحد طَرَفي المعادلة، وفي فكر المقالح وما يتجسد عبر كتاباته كثير مما يؤكد الموازنة وعدم الانحياز التام أو الرفض التام في هذه المسألة...

وعند هذه النقطة من البحث عن مبررات لرفض الثنائيات واستبدال الثلاثيات بها، سوف نسرد بعض الثنائيات التي رأى المقالح أنها (تلفّ الحياة الثقافية والفكرية العربية وتحيط بها: ثنائية الفعل والكلمة، ثنائية الشرق والغرب، ثنائية الخلََف والسلف، ثنائية الموضوعية والخيال، ثنائية الثقافي والسياسي، ثنائية الرواد والتابعين، ثنائيات كثيرة يطول حصرها ويصعب استقصاؤها).(5)

وفي نص مهم حول الحداثة والتراث - لدى أدونيس خاصة - يعرض الموقف (الثالث) الذي تندرج فيه تجربة أدونيس ويسميه (الموقف الواقعي المستنير) الذي يهدف إلى (ربط إيجابيات الماضي بإيجابيات الحاضر) (6) بينما عزل الموقفين المتطرفين وهما: الموقف السلبي العدمي الرافض للتراث، والموقف السلفي التمجيدي المتبني لكل ما جاء في التراث.

ويمكننا أخيراً أن نذكر ثلاثيات أخرى وردت عند المقالح كتفاصيل، منها: تفريقه بين ثلاثة نماذج من الشعراء هم:

أولاً: نموذج الشاعر الكبير.

ثانياً: نموذج الشاعر الصغير.

ثالثاً: نموذج الشاعر الرديء.

والنموذجان الثاني والثالث يحسبان (عمود الشعر) أساساً ثابتاً لكتابة القصيدة، أما الشعراء الكبار فأخذوا أماكنهم في عصورهم المختلفة بمقدار خروجهم على القديم وإضافتهم إليه (7).

هنا سيكون علينا معاينة قضايا محددة تناولها المقالح في نقده تجسيداً للنسق الثلاثي المتوسع والمتمدد رفضاً للاختيار الثنائي، وسنواجه هنا بحثه عن الأصوات الثلاثة التي عناها أليوت حين ميَّز بين ثلاثة أصوات شعرية هي: صوت الشاعر مخاطباً نفسه، أو جماعة قليلة، وصوت الشاعر محاولاً خلق (شخص) مسرحي يتكلم شعراً... بل هي عنده تعبير عن ثلاثة مستويات في الشعر العربي المعاصر مثلت الرؤية أوالحساسيات الجديدة، وهي:

الصوت الغنائي

والفكري

والتجريبي.

وهي عنده تمثل انعكاساً لمواقف الشعراء من اللغة وطرق استخدامها (8) مما يرتب مستويات لغوية ثلاثة تقابلها، هي: اللغة الغنائية، الاعتيادية، الأسطورية.

وهكذا يتأمل عبر التطبيق والتحليل نماذج لشعراء يمثلون هذا الاتجاه من أبرزهم نازك الملائكة وحجازي ودرويش، متأملاً كذلك مصطلح (الغنائية) الذي يرى أن مفهومه ظل أسيراً لمفهوم المصطلح الأوروبي، بينما يرى أن مقابلَه الاصطلاحي العربي هو (الإنشاد) الذي ربط الشعر بالغناء (9) لذا فإن إجراء هذا المصطلح يتم عنده على أساس (البنية الإيقاعية) أو الجانب الصوتي في القصيدة... مما يعزز الوزنية في القصائد الغنائية ويعلّل وجود القافية فيها.

لكنني أرى أن ذلك تحديد للغنائية كسمة صوتية في الشعر كما أرادها المقالح وهو يصنف أصوات الشعر، فربط الشعر بالإنشاد والغناء وما يلحق بذلك من شروط فنية، أدى إلى ربط الغنائية بالإيقاع عامة، فيما نرى أن الغنائية أساساً موقف أو رؤية من الشاعر إزاء العالم، تتقابل فيها الذات مع موضوعها، ويتكشف المضمون عبر الخطابية أو الرمزية المباشرة لينخلق بسبب ذلك الإيقاع العالي والتركيز على الوزنية الطاغية، والإلحاح على القافية كعنصر موسيقي خارجي.. يلاحظ المقالح ملاحظات ذكية على الخطاب الشعري الغنائي أبرزها تناظر التجارب الأولى لشعراء هذا الصوت مع تجاربهم الأخيرة أو بداياتهم مع آخر كتاباتهم (10).

أما موقف المقالح من قصيدة النثر فنلخصه كالآتي: رفض - تحفّظ - قبول.

كما كان تطور وعيه الشعري بالأشكال السائدة يتسلسل كالآتي: القصيدة التقليدية - القصيدة الجديدة - القصيدة الأجد.

وهذا ما رآه النقاد (تدرجاً) و (تصاعداً) في موقفه رغم إيمانه العميق بحتمية التطور والتحول والتجدد (11) ويرى ناقد آخر هذا التحول مثالاً للتعديل والمراجعة لغرض التساوق مع رؤيته الفنية والانسجام مع تكوينه العقلي المتحرر من التعصب (12) وقد تمثلت في حماسته لقصيدة النثر والكتابة عن نماذجها دون تحفظ، تجربة جريئة مع الذات ومواجهة قناعاتها دون إصرار على الاعتقاد المسبق، فانتقل موقف المقالح من التصريح بأن قصيدة النثر من (الفقاعات اللبنانية التي يكون من المستحيل اعتبارها شعراً جديداً وحديثاً أو مستقبلياً ) (13) إلى القول بعد ذلك بسنوات بأن قصيدة النثر هي قصيدة المستقبل لأنها الأشجع والأكثر حيوية مما عده النقاد المرحلة الثالثة في موقفه المتطور في قصيدة النثر (14).

لقد قام رفض المقالح الأولي لقصيدة النثر على أساس افتقارها إلى (الوزن) الذي كان فاصلاً عنده بين شعرية النص ونثر يته. (15) بينما تطور موقفه الثاني إلى التحفظ، لأنه طالبَ شعراء قصيدة النثر بتوفر (الإيقاع) في قصائدهم، لكنه سمّى كتابها شعراء مما يمهد لمرحلة القبول ومعالجة قضايا قصيدة النثر تفصيلياً والكتابة عنها (16).

وهذا يقودنا إلى جهد المقالح الاصطلاحي والمفهومي الذي برز واضحاً في مصطلح (القصيدة الأجد) كاقتراح يجسد تلاحم المصطلح والمفهوم، فإذا كان مصطلح (قصيدة النثر) يجمع النقيضين الواضحين (شعر - نثر) ويلقى رفضاً وتحفظاً حتى من كتّاب هذه القصيدة وروادها، فإن اعتبارها (القصيدة الأجد) قياساً إلى القصيدة الجديدة (الحرة) يلتف على تلك الثنائية التي رفضها المقالح ووجد فيها حصراً أو قسراً للشعر والنثر في مزايا منعزلة ونهائية... وعبر مصطلحه المقترح (الأجد) تبتعد ثنائية (قصيدة - نثر) من هذا الشكل الشعري الذي شاع واستقر.

وفي (ثلاثيات نقدية ) يفرد المقالح لمشكلة المصطلح حيزاً طيباً، فيصارح القارئ بأنه كان قد رفض مصطلح (الأجيال) لأنه فضفاض يضم تحت مفهوم العمر المضلل تيارات متناقضة (17) كما يتحفظ على مصطلح (الاتجاهات) لأنه فكري أكثر من أدبياً وشعرياً لذا يقترح (التماثل الصوتي) أو (اللغوي) الذي يجمع عديد الشعراء بغضّ النظر عن أعمارهم ومواقفهم وأجيالهم (18) وهو يتحفظ كذلك على مصطلح (الأصوات) رغم أنه استخدمه في الدراسة الرئيسية المهمة في الكتاب، لأن دلالته غير كافية في رأيه، وربما يكون مصطلح (الملامح) أقرب إلى ما يريد التعبير عنه (19).

ويستمر المقالح في استخدام مصطلحات تناقش تيارات الحداثة ذاتها، فيتوسع في بيان مفهوم (التقليدية الحديثة) التي يخشى - كأدونيس- أن تحل محل التقليدية القديمة وتستحيل معها أصوات الشعراء إلى تناسخ وتكرار لمقولات واحدة.. أما (الحداثة) فهي عنده ظاهرة الإلتباس والتضاد الداخلي وتعدد الدلالات والصراع ضد النمذَجة، ويخشى كذلك أن يتعرض مفهومها للتسطيح (20).

والمقالح في موقفه من الحداثة كوعي يتواءم مع موقفه منها كشرط فني للكتابة، فهو في قصائده يتوخى ذلك التحديث الذي يؤمن المقالح بمنجزه والذي يراه ملخصاً في:

- إخراج الشعر من حيز البيت إلى رحاب القصيدة.

- إطلاق اللغة من الكليشات واللوازم.

- خلق موسيقى بعيدة عن الزمن.

- خلق زمن مفتوح لا يحده القالب (21).

عند هذه النقطة في البحث يرد السؤال عن المنهج النقدي بما أنه مجموع الرؤى والمواقف وترجمتها إلى إجراءات وآليات فنية وجمالية واستخدامات للمصطلحات والمفاهيم.. وواضح في (الثلاثيات) ارتياح المقالح للمنهج الفني العام الذي يستفيد من رصد جماليات النصوص المنقودة، والظواهر الفنية في القصيدة، وما يترتب عليها من شروط ولوازم... وهو مثل صلاح عبد الصبور الذي لم يتوقف عند منهج نقدي بذاته كما يرى المقالح بل وصف منهجه بالمنهج المفتوح الذي ينحاز لقراءة القارئ ذي النزعة الفنية من بين ثلاث حالات.

(الثلاثيات مرة أخرى!) يسمح بها موقع القارئ كما حددها الدكتور شكري عياد وهي: حالة القارئ ذي النزعة العلمية المعيارية، والقارئ ذي النزعة العلمية التعميمية، والقارئ ذي النزعة الفنية الذي لا يهتم بالأحكام العامة بل يكتفي بالتذوق (22).

وقد بدا لي المقالح في جهده النقدي في السنوات العشر الأخيرة متأثراً إلى حد ما بمناهج القراءة والتلقي وتركيزها على عملية تقبل (واستقبال) النص كجزء من عملية قراءة فاعلة تعيد ترميم النصوص وبناءها، رغم أنه يتحفظ صراحة على نظرية التلقي التي - في نظره - (جعلت من الناقد مجرد متلقٍ لا أكثر، صحيح أنه متلقٍ واعٍٍ في تعامله مع النص المقروء إلا أنه في نهاية الأمر قارئ ما يكاد يقترب في قراءته من نص يثير استجابته، حتى يسارع إلى رصد هذه الاستجابة وتسجيلها في نصّ نقدي، وتلك هي رؤية النقد الأدبي القديم بعينها مع تحوير في العبارة، وإسهاب في التفاصيل التجريدية) (23).

إن القارئ والناقد كقارئ خاص يقوم أثناء عملية التلقي وتجلياتها في قراءة النصوص واستكشاف جمالياتها، باستنفار ما يسميه نقاد التلقي ب (ذخيرة القراءة) المتكونة عبر تراكم خبرة القارئ بالنوع الذي يتدرج فيه النص المقروء، وتسليط الوعي والشعور والإدراك على مستويات النص لجلاء كوامنه، مما يستلزم تعديل أفق قراءة القارئ والناقد للالتقاء بأفق النص المقروء، تماماً كما وصف المقالح ذاته عملية تلقي النصوص التقليدية القديمة بأنها (تسلية بصرية... تشد انتباه القارئ بما يتخلل الصفحة المكتوبة من نهر أبيض، وعلى الجانب الشمالي من الصفحة حروف متشابهة ذات نغمة رتيبة وإيقاع ممل.) (24).

في ختام هذا الاحتكاك النقدي بنقد المقالح من زاوية الرؤية والمنظور وكشف النسق الثلاثي الحر المتحكم في فكره ووعيه النقدي الرافض للثنائيات الصارمة، يجدر بي التنويه إلى أن قراءتي هذه التي تنضوي تحت (نقد النقد) لم تتلمس - بسبب انصرافي إلى كشف المشغّلات الفكرية الواعية - جوانب مهمة في تجربة المقالح النقدية وانعكاسها في وعيه الإبداعي وكتابته الشعرية مثل تطبيقاته النقدية ومرتكزاته الفكرية التي تربط الفن بالحياة، والشعر بالإنسان، وسواها مما أراه يتطلب وقفه أخرى مستقلة ومطولة.....

* كاتب وأكاديمي عراقي


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة