Culture Magazine Monday  14/04/2008 G Issue 243
عدد خاص
الأثنين 8 ,ربيع الثاني 1429   العدد  243
 
من دوائر الساعة السليمانية إلى أبجدية الروح
ثابت العقاب

 

 

حدث جميل ورائع أن نحتفل بالأديب الكبير والشاعر المخضرم الدكتور عبدالعزيز المقالح، الأخ والصديق والأستاذ، أبرز الوجوه الأكاديمية والأدبية في عالمنا العربي، الاستثنائي من حيث مكانته الفكرية، وأكثر الشعراء فرادة وتميزاً.

بدأ الدكتور المقالح حياته الإبداعية مبكراً؛ ففي أواخر خمسينيات القرن الماضي كان على رأس الجيل الثالث، ومعه أمل دنقل وعفيفي مطر وسعدي يوسف ومحمد إبراهيم أبو سنة وفاروق شوشة وآخرون.

من مدن الحزن جاء شاعرنا، وبنهره الشاحب الأصفر اغتسل، رآه بعيني أمه وبعيون إخوته ثم قرأه في وجوه زملائه في المدرسة والشارع والسجن، رحل إلى الصمت فتقرح جسده، وكادت ثعابين الصمت أن تأكل لسانه وتذهب ببصره؛ فعاد إلى الكلام، إلى الشعر.

استطاع أستاذنا القدير أن ينقش اسمه على أعمدة عرش بلقيس، وأن يكون البوابة الثامنة لمدينةٍ بعُمر سام بن نوح، وهو شجرة سامقة في وادي بنا وشلال في وادي الدور، فارشاً سجادته، وعاشقاً في القاهرة، ومكرماً في باريس وأبو ظبي، وناقداً في بيروت، وأستاذاً في كل جامعة، وشاعراً وكاتباً في كل نافذة ثقافية، وهو في الرياض اليوم ذكرى عطرة.

صنعاء البداية والحلم والذكريات، القصيدة الأولى والأخيرة في حياته..

كانت امرأة

هبطت في ثياب الندى

ثم صارت مدينة

إنَّ المتأمل نتاج شاعرنا الكبير يقرأ المعاني العظيمة والدلالات العميقة لهذا الإنسان الاستثنائي في زمن تلاشت منه الاستثناءات؛ حيث ظل شاعراً طامحاً إلى تحقيق آمال وأماني الإنسان العربي بدءاً بقضايا التحرير وانتهاء بمشروع الوحدة العربية.

كما أنَّ دراساته وأبحاثه وكتبه كانت أشمل وأكثر قدرة على سبر أغوار تلك النتوءات التي تحدثها الحركة اليومية، لتتحول تلك الرغبة الملحة في رسم طريق واحد وشعار واحد ولغة واحدة إلى قناعات راسخة، خاض بسببها معارك عديدة، وفي كل مرة كان يخرج منتصراً؛ كونه لم يخرج من دائرة الدين والإصلاح والدفاع عن المقومات والأخلاق، كما أنه ليس متهماً، وقادر على الدفاع عن نفسه لأنه في كل مرة يساء فهمه ويتعمد خصومه إسقاط النوايا الحسنة من قصائده وإعادة تفسيرها بما يتناسب ووجدانهم ومشاعرهم وأحاسيسهم التي تعتبر هي أيضا فارغة من محتواها، وعلى طريقة لا تقربوا الصلاة.

نتاج شاعرنا الكبير ليس نظاماً مغلقاً وحجة مكتملة، كما أنه ليس حرباً ضد كائن من كان، بل هو إبداع وفكر يشير إلى قضايا عشناها ونعيشها، وحلول توافقية بين الممارسة والنظرية.

إنَّ الفوضى التي تسكننا والعجلة التي تسوقنا بعصا غليظة هي التي أوصلتنا إلى هذه التراجعات المتتالية سواء في الفكر أو الثقافة أو الإبداع.

فنحن أمة تفتقر إلى الحوار والبحث عن إجابات شافية لأسئلة كثيرة تختلج في الوجدان، بل وكسولة؛ فدائماً ما نبحث عن الأحكام الجاهزة التي عادة ما تذيل بأسماء مستعارة، قاصدين تجنب النزاعات الأدبية والهروب منها وعدم السعي لاكتشافها وقبولها ثم العمل على معالجتها.

والقصيدة عند شاعرنا ليست تهويماً في متاهات الغموض، بل هي انثيال من حضارات متعاقبة؛ ففيها من جمال السهول وكبرياء الجبال، كما أنها تعبير عما تفيض به الذات الملتحمة بكل ما هو فطري ومقدس.

وهي التعبير الفني الأعمق تأثيراً والأكثر نفاذاً إلى الروح، ولها طقوس وألوان وظلال وإيحاء وحواجز وأمكنة وأزمنة وتصريح وتلميح ومواجهة وغياب وانزياح وتراسل تقترب وتبتعد.. لذلك فالنص بحاجة إلى فك رموزه وقراءة طلاسمه من ذوي الاختصاص بروية لا بعجالة وسطحية أو اجتزاء.

ثمة أسئلة معقدة تستوقفنا في هذا السياق، وثمة غصة في الحلق تكاد تشرق بصاحبها المثقل بالهموم والآهات بعد أن خانته الأبواب وتعثر فنام على صدره المساء، ثمة حلم فسره حاطب في الغابة، ثمة بناء هندسي شرحه مصارع ثيران، ثمة نص أدبي كتبه الشاعر المؤمن الذي يناجي الله عز جلاله بمثل هذا الشعر من قصيدة بعنوان (ابتهالات):

إلهي

وقد سكن الليل

وانكفأت تحت صمت الظلام البيوت

وأورق حزن الشوارع

هل لي إذا انكمشت داخل الجسم روحي

واختبأ الحلم في صدف الدمع

هل لي خلف المدى توبة تصطفيني؟

ونافذة تحتويني؟

وهل للكلام المحوط بالسر أن يفتدي وحشة الغاب

أن يمتح القلب شيئاً من الضوء

شيئاً من الصلوات تطهر هذا الكيان العتيق

وتغسل عنه سواد الخطيئة.

والذي يقول في قصيدة أخرى بعنوان (بياض اليقين):

إني أفوض أمري إلى الله

أقرع أبوابه

بدموع تكسر مرمرها

في محيط من الظلمة القاتلة.

وهكذا يتبين لنا كم نحن بحاجة إلى احترام الآخر في انتقاداتنا وعدم التحريض على الكراهية، وألا نعلن أن كل شيء قد سقط وانتهى زمن التهذيب والالتزام.

يظل الدكتور عبدالعزيز المقالح هو الثائر اللطيف، والحر المهذب، والطامح المتأني، والعاشق الخجول.. فلم يكن يوماً مؤذياً ولا عدائياً ولا شتاماً ولا لعانا؛ بل ظل وما زال ينادي بضرورة الاتحاد والتضامن في وجه الظلم، وهو ذاكرة تحمل في طياتها الكثير والكثير في الأدب والشعر واللغة والتاريخ والحب والجمال، وكلما التقيته كان جديداً بأسلوبه، رائعاً في تعامله، ثرياً في معلوماته، دقيقاً في نظراته، يرفض الحوارات المبطنة التي ترمي بنتائجها هنا وهناك، وإن كان ذات صباح جاملني وأجاب عن أسئلتي.

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة