Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
فضاءات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 

من أجمل كتب الرحلات
الرواية المثيرة... (العربية السعيدة)! «2-2»
د. أحمد عبدالملك

 

 

أبحرت السفينة من (العربية السعيدة).. وأعطت ظهرها للساحل الإفريقي باتجاه الهند. وهنا يفقد الزملاء اثنين من أعضائها ((بارون فايند) و(الخادم (بيرج جرين) وتم قذف جثتيهما في البحر. وفي فبراير 1764 يتوفى الطبيب (كراكر) في الهند. وهكذا لم يتبق من أعضاء الفريق سوى (نيبور). وهنا يقول:

(من فريقنا القوي لم يبق غيري أنا. عندما أتخيل أن رحلة العودة الموعودة عبر البصرة وعبر كامل تركيا؛ فعلي هنا أن أتوقع على الأقل صعوبات عديدة تشبه الصعوبات التي مررنا بها في مصر إلى بومباي، ولذلك فلدي أمل ضئيل في رؤية أوروبا ثانية).

تقترب السفن الاستكشافية من مسقط؛ بعد انتهاء الأعمال في بومباي. وتدخل السفن إلى مياه الخليج. يذكر الباحث وصفاً لرحلته داخل الخليج.. يقول:

(جزيرة البحرين يعتقد أنها كانت في العصور الماضية كثيفة السكان؛ حيث استطعت عدَّ آثار تدل على 365 مدينة؛ الآن لا يوجد سوى مدينة واحدة مع بعض الحصون. ولا يجد المرء ما مجموعه خمسون قريبة التي غالباً فقيرة جداً).

كما يصف جزيرة (فيلكا) ثم يصل إلى بوشهر؛ ويقرر السفر إلى شيراز على الحمير. ثم إلى أصفهان ليصل إلى آثار (بيرسبوس) حيث قضى هنالك شهراً يقيس الرسوم والنقوش.

يكشف الراوي طبيعة الإنسان الضعيف الذي يتمسك بقشة من أجل تحسين حياته. مع الإيمان بدور الآخر في القضية. يقول الراوي بعد أن تحلقت حوله بعض النسوة وهو يقوم بنسخ النقوش في المعبد المذكور (بيرسبوس):

(لقد سمعن أن هذا العالم الأوروبي (هو) عالم في النقوش، والآن بدا واضحاً من خلال الأوراق الملقاة على مصطبات المرمر حوله أن الشائعة كانت صحيحة. لقد أتين من أجل هذا. إنه يستطيع مساعدتهن. الصبايا أتين من القرى المجاورة -بعضهن على الأقدام وبعضهن على الحمير- لكي يرجون (نيبور) ليكتب لهن بعض النقوش على قصاصات ورق لكي يحفظنها في حُجُب ضد المرض ومن أجل إنجاب الأطفال).

رحل (نيبور) في أبريل 1765 من قرية (مرداست) وقد تضررت عيناه كثيراً. ومن بوشهر إلى البصرة حيث يصف الناس والجمال التي تسقط من شدة الحر. ويصف أشكال البيوت وكثرة تجارة التمر. ويتخلى عن ثيابه الأوروبية ويرتدي الثياب العربية؛ كما يقوم بتغير أسمه إلى (عبدالله). ومن البصرة تبدأ الرحلة شمالاً عبر النهر. ويصل إلى (مشهد علي) ويرسم صورة للمسجد. ثم يصل إلى بغداد ومنها إلى سوريا. وفي حزيران 1766 يصل عبدالله إلى حلب؛ وهنا يتمدح الأوروبيين الذين يسكنون حلب وهم من المسيحيين؛ ويقوم باستعادة اسمه الأصلي (كارستن نيبور) ويحل مكرماً معززاً على القناصل والدبلوماسيين الذين يكرمونه بكل أدب. يقول في هذا الخصوص:

(وجدت في حلب ألطف الناس الذين التقيتهم خلال سنوات. وأيضاً مواطن مثل السيد (فون ماسيك) كان ولد في (هولستن) وكان في حقيقة الأمر من رعايا الملك الدنماركي؛ إن مضيفي المحبوب لم يوفر أي شيء لكي يجعل إقامتي في المدينة مريحة إلى حد بعيد)!

نلاحظ هنا -كعرب- اختلاف شعور (نيبور) وليونة ورقة كلامه مقارنة بما سطره عن عرب مصر وجده واليمن. ونلاحظ قضية الجهل الديني عند (نيبور) حيث أنه بعد رحيله من سوريا عبر البحر اتجه نحو (حيفا) ومنها إلى القدس؛ وفاته التعبير عن مدى قدسية المدينة لدى المسلمين .. يقول:

(الآن وصلت إلى القدس، المدينة الأشهر في العالم كله بالنسبة لليهود والمسيحيين).

تترك السفينة إلى (عكا) ثم إلى القسطنطينية وسط عواصف من الثلوج. وتبدأ الرحلة البرية عبر الجمال. يصل إلى حدود بلغاريا؛ حيث كان في حراسة 16 جندياً مسلحين، وذلك لكثرة قطاع الطرق في تلك البقاع. يصل إلى (بوخارست 9؛ ويذكر المؤلف أن روسيا السوفيتية كانت تحت السيطرة التركية آنذاك. ثم يصل إلى (وارسو) عبر رحلة خلال الحقول والمزارع النظيفة حيث يستقبله الملك البولندي بنفسه. وينتهي (نيبور) مفكرته اليومية التي امتدت لسبع سنوات في متن وصل إلى 1500 صفحة كبيرة بالكلمات التالية:

(بين كل النواحي التي تقع بين (برسلاو) وكوبنهاجن كانت هناك خريطة شاملة مسبقة؛ بحث لا لزوم لعمل قياسات وملاحظات أخرى).

ويركب من (بريسلاو) إلى (هانوفر) وفي ليلة شتوية عند (ستوي بيلت) يستخدم آلته لآخر مرة لشاهد النجوم. وفي 20 تشين الثاني 1767 يصل إلى كوبنهاجن. وهنالك يستقبله الملك؛ لكن المصيبة الكبرى والمخيبة للآمال أن الصحف لم تهتم بكل ما قامت به البعثة الاستكشافية؛ بل ظهر الخبر عنه في الجريدة كالتالي:

(بعد أن وصل المعروف العريف (نيبور) إلى الوطن من سفرته العربية التي استغرقت عدة سنوات؛ وفي 30 من الشهر دعاه الملك لحضرته واستمع إليه بعطف واحترام وتلقى تقريره عما أنجزه في هذه الرحلة، وقد كان (نيبور) سعيداً جداً باستقبال جلالة الملك له)؟!

يجب أن ندرك أن العلماء لا يواجهون بالغدر والنكران في العالم العربي فحسب؟!!

كلفت الرحلة الاستكشافية الدولة 21 ألف ريسداله؛ أي ما يساوي مليون كرونة عام 2006؛ يقول المؤلف:

(هل هذه تكلفة باهظة التي ذبحت على مذبح العلم والمعرفة والثقافة !؟ هل من المعقول أن يكون كارسن نيبور قد أسرف في استخدام أموال الدولة؟ إن تمثال فريدريك الخامس أمام القصر الملكي والذي نحته (سالي) قد كلّف 6 أمثال هذا الرقم! مصروف الحاشية الملكية السنوي في تلك الفترة كان أكبر من هذا المبلغ بثلاثين مرة) !!

بتلك الطعنة التي أثّرَت على معنويات العالم (نيبور) قرر التخلي عن كل قياساته التي قام بها في رحلته الرائعة. وخرجت عام 1772 النسخة الأولى من عمله بعنوان (وصف العربية) مهداة إلى ملك الدانمارك. وقد حوى العمل كل المشاهدات والملاحظات الاجتماعية والدينية والعادات والتقاليد وأنواع الحكومات والمناخات والألبسة للأماكن التي زارها.

وضع نيبور نصباً تذكارياً لزملائه المتوفين في الرحلة؛ ثم عاد وأصدر كتابه الثاني معتمدا على مفكرة سفره؛ حيث طبع الكتاب في 500 صفحة ويصف الرحلة من بومباي إلى حلب.

وللأسف لم يجد نيبور وظيفة ملائمة بعد كل عطاءاته وتضحياته من أجل العلم ومن اجل بلاده. ورحل إلى مدينة (دياتمارسكن) التعيسة ككاتب أراضي حيث استقر هناك عام 1778 مع زوجته وطفليه. يقول المؤلف عن نهاية الرجل:

(كما أن الفشل وعدم الحصول على تقدير وتشريف له لم يكن عائقاً أمامه؛ لقد ترك العاصمة، ولكنه كان باستطاعته فقط قبول المركز في النرويج؛ إضافة لذلك لم يكن لديه الوقت للشعور بالفشل).!

عندما بدأت أعماله الأدبية بالانتشار في أوروبا أولاً ثم في كوبنهاجن لم يضطره ذلك لتغير قراره. نال وسام المعرفة الأولى ليس من بلده؛ بل من فرنسا. وأخيراً عيّن عضواً في مجلس الدولة ومنح وسام فارس؛ لكنه لم يغادر (دياتمارسكن) !

وبلغ اليأس ب(نيبور) إلى درجة لا تقاوم عام 1795؛ فقد احترق كل ما جمعه من صحون ونقوش ومخطوطات - لا تُقدر بثمن - إثر حريق كوبنهاجن المعروف؛ وكان قد وصل إلى سن السادسة والستين. وبدأ الموت يحوم حوله. كما فقد بصره أولاً ثم زوجته ثانياً وأصيب بالشلل الجزئي. ومات في نيسان 1815 عن عمر ناهز 82 عاماً. مات في مكان مجهول ومقفر في بلدة (دياتمارسكن). وكان ابنه قد سجّل آخر أيام حياة والده. يقول الإبن:

(أبي كان وحيداً تماماً؛ فرغ نفسه للمراقبة ومشاهدة العالم. الغيبيات والتفكير المعقد كان ضد شخصيته؛ كان عليه أن يضع كل شيء في شكل محدد)!

وهكذا تنتهي رحلة نيبور مع العلم والمعرفة والثقافة ومع المرض وموقف الملك منه الذين أصابه في مقتل. يموت الرجل دون أن تخط الصحف المشغولة بالملك والحاشية أية عبارة نعي على الرجل الذي قدم للعلم والمعرفة ولبلاده الكثير؟!

- قطر hamsalkhafi@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة