Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
فضاءات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 

مساقات
عام اللغة العربية.. وهؤلاء !
د. عبدالله بن أحمد الفيفي

 

 

كنَّا قد خرجنا في بعض المساقات السابقة إلى استطرادات في شأن الثقافة بعد حديثنا من قبل عن مشروعات توطيد العاميَّة في مجتمعنا وإعلامنا في السنوات الأخيرة. فهذا من ذاك. والشِّعر ديوان الثقافة العربيَّة، بغثِّها وسمينها.

ولقد خصصتُ العام المنصرم (1428هـ= 2007م) بمقالات تدور حول هموم اللغة العربيَّة. فناقشتُ خطورة تشجيع العاميَّات، والتأريخ لها. وكأن التأريخ لحالة مرضيَّة هو شفيعٌ لها للبقاء لدى أولئك المؤرِّخين!

وإذا راجعنا التاريخ العام ألفينا تاريخ الحالة العاميَّة قد بدأ بحكومات أعجميَّة، أو شبه أعجميَّة، أخذ تأثيرها يستشري منذ القرن الخامس الهجري تقريباً، في المشرق والمغرب، فاضطر العربيُّ إلى مجاراتها، لتفهمه ويرضيها. وذلك كدولة المرابطين في الأندلس، وقائدها يوسف بن تاشفين، الذي استبدَّ بالحكم في الأندلس منحِّياً أمير إشبيليَّة وشاعرها المعتمد بن عبَّاد. يوسف، ذلك العسكريُّ، الذي ما كان يُحسن العربيَّة، بل كانت الأمازيغيَّة لغته على الأرجح. ومن طرائف ما يحكى عنه (أحمد بن محمَّد المقّري التلمساني، - 1041هـ= 1631م)(1) قوله: إنه لولا توسّط ابن عباد لشعراء الأندلس في مدحه ما أَجْرَوا له ذِكراً، ولا رفعوا لمُلكه قَدراً؟ وبعدما ذكروه، بوساطة المعتمد بن عباد، فإن المعتمد قال له، وقد أنشدوه: - أيعلم أمير المسلمين ما قالوه؟

- قال: لا أعلم، ولكنَّهم يطلبون الخبز!

ولمَّا انصرف عن المعتمد إلى حضرة ملكه كتب له المعتمد رسالة فيها:

بنتمْ وبنّا فما ابتلّتْ جوانحنا

شوقاً إليكمْ ولا جفّت مآقينا

حالت لفقدكُمُ أيّامنا فغدتْ

سوداً وكانت بكمْ بيضاً ليالينا

فلما قُرئ عليه هذان البيتان، قال للقارئ:

- يطلب منّا جواري سوداً وبيضاً؟!

- قال: لا، يا مولانا، ما أراد إلاّ أن ليله كان بقرب أمير المسلمين نهاراً؛ لأن ليالي السرور بيض، فعاد نهاره ببُعده ليلاً؛ لأن أيام الحزن ليالٍ سود.

- فقال: والله جيّد، اكتب له في جوابه: إن دموعنا تجري عليه، ورؤوسنا توجعنا من بُعده!".

وهكذا حالت أيام العربيّة، فغدت سوداً وكانت بيضاً لياليها، لتعيش مذ ذاك غربتها الممتدَّة، وليتردّى ذوق بنيها، ويتّبع الناس دويلاتهم في إهمالها، واعتناق سواها، من أعجميات أو لُغيّات هجينة.

ولكن إذا كان قد أُعلن عام 1428هـ عاماً للعربيَّة الفُصحى، فجعلتُ مقالاتي خلال هذا العالم حول قضايا اللغة المختلفة، فكم بالحريّ أن تكون كل أعوام العرب أعواماً للغتهم، وأن يستيقظوا، بعد طول منام، ليعوا أن العربيَّة هي أسّ نهضتهم، وجوهر وجودهم الحضاريّ، واللَّبِنَة الأولى في كيانهم العامّ، وأن تسويغ التمادي في الخذلان اللغوي الذي يعيشونه منذ قرون انهيار العواصم الثقافية- بغداد، والشام، والأندلس، ومن ثم دخولهم سرداب التخلّف، والجهل، والتشرذم الطويل، والولاءات المتعدّدة- إنْ هو إلاّ دفاع المريض، أو صاحب الهوى، عن مرضه أو هواه، وأن ترديد مقولة إن اللغة العربيَّة محفوظة أبديّاً ولا خوف عليها- فما على العرب لو ضيّعوها واحتجّوا، احتجاج المُبتَلَى بما يدفع عنه الاعتراف بالنقص، منتظرين معجزة من السماء- ما هو إلا محض تأوّل، وجهل، أو تلبيس وتدليس ودجل من سدنة المحكيَّات وحُرّاسها، أو دعاة اللغات الأجنبيّة والمبشرين بها، وقد آن لهذه العوارض الذهنية أن تنقشع؛ فللغات سننها، ككلّ ما خلق الله، تقوى وتضعف، وتشيخ وتفنى، وتحيا وتموت، والإنسان، الذي ميّزه الله عن الحيوان بالعقل، وجعل آلة العقل اللغة، هو المسؤول عن ذلك كله!

ولا أَعْجَبَ ها هنا من تناقض من يسلّم بأهميّة اللغة، لكنه يحتجّ بضرورات العصر، وهو لا يرى مخرجاً من تلك الضرورات إلا بالغرق في اللغات الأجنبيّة، وإهمال الترجمة إلى اللغة العربيّة، أو التعريب العلمي، أو التعليم باللغة العربيّة، قائلاً: إذا أردنا أن تنهض لغتنا فعلينا أن نكون ذوي فكرٍ وإنتاجٍ وحضارة، وعندئذٍ ستصبح لغتنا لغة عصر، بل ستعود إلى وهجها العالمي. وهذا كلام حقٍ معسول، لكنه قد يراد به باطل مغسول. هذا إن أحسنَّا الظنَّ بقائله، وإلاّ فإنه قد يعبِّر عن جهل مركَّب بطبيعة اللغة والفكر معاً، ولا يصدر حين هذا عن فكر سليم. وكأن هذا المتحذلق ينتظر أن تهبط عليه الحضارة والفكر من السماء؛ لأنه في الوقت الذي يخوض فيه في التنظير لنهضة اللغة العربيَّة، لا يرى أن الخطوة الأولى هي تفعيل تلك اللغة، استعمالاً، وممارسةً، وتعليماً، وإعلاماً.. لسان حاله: اللغة العربيّة مهمّة، وحالها لا تسرّ عدوّاً ولا صديقاً، لكنّنا سنتحدّث باللغة الإنجليزيّة، وسنكتب باللغة الإنجليزيّة، وسنفرضها على أبنائنا وبناتنا فرضاً، في التعليم الأهلي، وعن قريب في التعليم الحكومي، فضلاً عن الجامعات، حتى نصحو ذات صباح- ويا سبحان الله العليّ العظيم!- إذا كل شي ء قد أصبح بلسان عربيّ مبين، وإذا نحن منتجو حضارة لا مستهلكوها، وبلغتنا نحن لا بغيرها!

أولا نرى أن قد أحيت إسرائيل لغةً ميتة، وفرضت تعليمها على أبناء الديانة اليهوديّة فرضاً، وإن لم تكن العبريّة لغتهم الأُمّ، وقرّرتها منذ مرحلة الروضة، أي من سنّ الثالثة، من أجل تكوين مجتمعٍ عبريّ متجانس، متماسك، مرتبطٍ بلغته الواحدة، حاملة هويّته وتراثه وثقافته.. فيما بعض العرب يسعون سعياً مستميتاً إلى إماتة لغة ما زالت حيّة، وإلى انتزاعها انتزاعاً من أرواح أبنائها، وفي عقر دارهم.. ألا ساء ما يحكمون! أو قل إنهم في أحسن الأحوال يرمون، تسامحاً، إلى أن يجعلوا اللغة العربيّة مجرد لغة اختياريّة ضمن لغات شتّى في الجزيرة العربيّة، في ديمقراطيّة لغويّة لم يسبق لها مثيل في التاريخ! وهؤلاء يصدرون إمّا عن عدم وعيٍ بخطورة ما تعنيه اللغات في الأُمم الحيّة، أو عن وعيٍ بذلك وتجاهل له لأسباب ظرفيّة، إنْ لم نقل لمآرب أخرى لا تتحقّق إلاّ بالتضحية باللغة على مذبحها.

وما تابع امرؤ ذلك الخطاب المترنّح لدى أصحابه، إلاّ لحظ وراءه كذلك عقدة ثقافيَّة معيَّنة، هي بيت الداء، أو (إنَّ) لغويّةً ما، تمثّل جرثومة التشوّه المنطقي الذي يعيشون في كنفه؛ تعرفهما من لحن القول أو الفكر لدى أصحاب ذلك الخطاب، حينما تُلفي المؤيّد للتعليم بغير العربيّة منهم ركيك العربيّة أصلاً، يتوكأ من عجمته وعجزه على عكاكيز أجنبيّة، مبقّعاً أسلوبه بكلمات اللغة التي يدعو الناس إلى تبنّيها، في عدم ثقة بالكلمة العربية- وإن لم تكن مصطلحاً أو ما شابه المصطلح- ما لم يُعزّزها للقارئ العربي بكتابة كلمة أجنبيّة إلى جوارها هنا أو هناك. أو هو، بالأصح، هيامٌ بلغة صاحبنا الثانية، واستئناسه برؤية حروفها تزيّن النصّ، بمناسبة وبغير مناسبة، مع حرصه الشديد على أن يظهر بين ظهرانينا بمظهر المثقّف المفتوح على الآخر، بدرجة (عاشق متيّم)، لا منغلق على ذاته، ولا متقوقع في لسان قومه، بل هو ذلك الهُمام «المودرن» في كل شيء، وما درى أنه بذلك يفضح نفسه ويسقط عن وجهه القناع!

ولا شكّ أن الذاكرة المليئة بعُقد تعلّم اللغة العربيّة، ومعاناة الطلبة من مناهجها، أو مع مدرسيها، وشعور المسكين من هؤلاء حين يكبر بالعيّ في التعبير، والخَطَل في الكتابة، وكثرة اللحن النحوي، والخطأ اللغوي، مع ما يسبّبه ذلك له من حَرَج في الأوساط الثقافيّة، وفشل في المناسبات الاجتماعيّة، فضلاً عن إحساس بالضآلة تعبيريّاً مقارنة بمتحدّثي اللغات الأخرى، كل أولئك عوامل نفسيّة تجعل حامل هذا العبء السيزيفي ذا حافزٍ لا شعوريّ مضادّ للغته، يتحوّل مع الزمن إلى موقفٍ فكريّ منها، هو في بنيته العميقة دفاع فطريّ عن الذات، وكل إناء بما فيه ينضح، وكل ضعيف أو مستضعف لديه نزوع غريزي قويّ نحو الدفاع.

(ولنا مع أمثال هؤلاء نقاش في المساق المقبل).

1) (1988)، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تح. إحسان عبّاس (بيروت: دار صادر)، 3: 191- 192.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة