Culture Magazine Monday  17/03/2008 G Issue 239
فضاءات
الأثنين 9 ,ربيع الاول 1429   العدد  239
 

خطاب التنوير في القصة القصيرة السعودية«2»
د. لمياء باعشن

 

 

لو عدنا إلى القصة القصيرة لوجدنا أن التحولات في صياغتها قد حدثت في مرحلة مبكرة من تاريخها، فقد دخلت في مضمار التجديد في زمن قياسي. يقول شاكر النابلسي: عندما بدأت هذه الكوكبة من الشبان القصاصين السعوديين كتابة القصة القصيرة التفتت وراءها فلم تجد غير إرث بسيط ومتواضع من أدب القصة القصيرة لم يستطع أن يصنع (الأساس الحقيقي لهذا الفن) (النابلسي، 10- 11). لم تمش القصة القصيرة طويلاً على النهج المألوف لتقدم قصصاً تتكئ على البنية التقليدية القائمة على التتابع المنطقي للأحداث في حيز حكائي ضيق يعرض قضايا اجتماعية جوهرية، بل شرعت في استحداث أبنية جديدة تسعى إلى إعادة الاعتبار للقيم الجمالية وعناصر البنية الفنية في معادلة الفن القصصي. حطمت القصة السائد وفجرت الثبات وخرقت المسار القصصي المتعارف عليه وذلك في حركة تفتيت شملت الحدث واللغة والبنية برمتها. كما صاحب هذا التطور الشكلي اللافت مضامين طرحت بدائل رؤيوية ديناميكية للخروج من القوالب الفكرية المتوارثة التي عزلت المجتمع وأعاقت إدراكه للمتغيرات السوسيولوجية التي أفرزتها الحداثة. لم يعد مؤسسي القصة القصيرة يبيحون التعامل معها باعتبارها وسيلة براغماتية لنقل توجيه معين، بل أفرزت قصصهم شخوصاً هاجسها الحرية في التعامل مع العالم الخارجي وفي رؤية الأشياء من زاويتهم هم دون رصدها من فرجة تكشف لهم عنها (خيمة القبيلة) (السريحي، 41).

لكن كل هذه الظواهر لم تشفع للقصة القصيرة حتى يتم الاعتراف بها كفعل حداثي لمجرد أنها لم تزلزل الوعي المحافظ. هل يعود ذلك إلى ما هو معروف من أن) القصة القصيرة شكل إبداعي يتوسط بين جنسين هما الرواية والشعر، ولعل هذه الوضعية هي التي جعلت القصة في عموم العالم العربي من أكثر الأجناس الأدبية عرضة للظلم والتهميش) (حسين المناصرة، قوافل، 111). عموماً فإن القصة القصيرة نوع أدبي حديث النشأة غربي الجذور، لذا فإن طرأ أي تغيير على تقاليدها المستوردة فإنه لا يشكل ثورة على نسق لأن) الموقف الثقافي - الاجتماعي إزاء التغييرات في القصيدة لا يقاس من حيث الضخامة والحدة بالموقف إزاء القصة، فليس من المتوقع أن يغضب أحد لمحاولة القصة أن تتخلص من الحبكة مثلاً مثلما حاولت القصيدة تغيير نظام الوزن والقافية... إن مجموعة المفاهيم الموروثة في الأدب العربي جعلت من القصيدة شيئاً أكبر من مجرد شكل أدبي، بل تكويناً فنياً مقدساً إلى حد ما) (سعد البازعي، 159). إذاً كيف للقصة أن تكسر نسقاً غير موجود أصلاً؟

بعد فحص الكثير من النصوص القصصية السعودية يتبين لنا أن القصة وإن تخلصت من قيود ارتباطها بالحث على الفضيلة والتحذير من الرذيلة، إلا أنها ظلت لصيقة بالظروف السوسيوثقافية بشكل معقد للغاية، واستمر خطابها وفياً للاتجاه التنويري وإن اتجه نحو أشكال حداثية في طرائق التعبير. وقد استلت القصة حبكاتها الدرامية من خضم الحياة اليومية لتعبر خاصة عن الاستلاب الحضاري للفرد في واقع خارجي تسوده نزعة استهلاكية صارمة هي نتاج الطفرة المادية التي شهدتها المنطقة في السبعينات. وهيمن على الفن القصصي السعودي ذلك التقابل الظاهر بين القرية المنقسمة بين البراءة والركود، والمدينة الجامعة بين الفساد والتجدد. يقارن بطل حسين على حسين في قصة (زائر المدينة) بين المكانين قائلاً:(انظر إلى الصحراء من حولي وهي تنام بهدوء وسكينة، إيه يا خيمتي الحبيبة.. أتركك بلا موعد، أرمي جسدي بين أحضان مدينة جديدة لا ترحم القادمين إليها.. (من) ينقذني من براثن هذه المدينة القبر؟ كل واحد في سبيله.. لا توجد علاقة بين الناس سوى علاقة الفلوس، أما ما عداها فهو كالقشرة.. آه أيتها القرية الحنونة).

عالم القرية ببدائيتها الطبيعة الهادئة عالم يحن إليه كثير من القاصين الذين يظهرونها بكل سذاجتها وفقرها كبديل مثالي لقسوة المدينة وعزلتها وتفسخها الاجتماعي. وتحول تعقيدات الحياة المادية الناس إلى جزر مفصولة عن بعضها، فيعاني أبطال هذه القصص من الوحدة والإهمال، مثل بطل عبد الله باخشوين في (يقظة مبكرة): (كان في بلدته الصغيرة يعيش ضمن إطار أسرة واحدة كبيرة، ها هو اليوم يجد نفسه محاصر بوحدة قسرية لا قبل له باحتمالها. زحام شديد ولا .... لا أحد ....تحاصره المدينة بأضوائها الفارهة ومقاهيها الساهرة، فينسل وحيداً حزيناً .. زحام شديد.. ولا أحد.. لا أحد..)... ثم (كسرته المدينة بلهاثها اللا إنساني وحطمته) فخرج ذاهلاً متخبطاً بدون أن يشعر خرج إلى الشارع:(كان عارياً تماماً). ويتساءل إنسان الريف الأعزل الغريب في قصة قماشة السيف (المدينة وأتون الاغتراب): (كم تتجنى هذه المدينة، لماذا لا تريد أن تمتزج بي؟).

أسفر المخاض الحضاري عن تحول شامل في الأنماط الحياتية وتراكمت معطياته في غمرة هذه الصدمة الحضارية ما أدى إلى خلخلة النظام القبلي الموروث وإلى انشطار الفرد السعودي بين لهاث عنيف وملل رتيب، فوقع في شراك ازدواجية عنيفة بين فكره الساكن ومظهره المتغير، مما أدى إلى نشوء الأقنعة وتناقض الظاهر مع الباطن . يرصد الكاتب القصصي كل هذه التحولات التي تحدث على المستوى الاجتماعي والإنساني ويسجل النوازع النفسية التي تنطوي عليها الشخصيات وهي تصارع من أجل التكيف والتوافق بهدف إعانة القارئ على استيعاب جملة المستجدات ومساعدته للحفاظ على أسسه الإنسانية خاصة في بعديها الأخلاقي والقيمي في عصر سمته الطاغية هي التغيير المستمر. وتؤسس هذه المهمة التنويرية لشرعية الأديب في التفاعل المسئول مع أزمات مجتمعه الذي لم يواكب طفرته المادية بتقدم فكري مناسب. يقول سباعي عثمان: (إنني أكتب لأن هناك إلحاحاً من داخلي على الكتابة ولأنني أريد أن أقول للناس شيئاً.. أنا أفهم الأدب بأنه عملية تهذيب للسلوك الداخلي للإنسان وبالتالي عملية التهذيب هذه تنعكس على سلوك الإنسان بوجه أو بآخر.. الأدب يغسل الإنسان من الداخل) (النابلسي،145).

تعكس هذه القصدية التطهيرية وعي كتاب القصة القصيرة بدورهم التنويري، ألا يكفي هذا لأن يكونوا حداثيين؟ أليس هنالك تلازم بين التنوير والحداثة؟ يربط الغذامي بين التنوير والحداثة حين يصور الأخيرة على أنها مصدر إشعاع تماماً كالشمس في قوله أن رفض الحداثة مثل وضع اليد أمام (ضوء الشمس) لحجب مقادير من نورها دون السيطرة على (الشمس ذاتها وتحولاتها ما بين الظل والإنارة ودورة الأرض. وكلنا من تحت الشمس تلامسنا بلا خيار منا، ومهما تفادينا أجزاء منها فإنها ستدخل إلى أجزاء أخرى) (حكاية الحداثة، 10). كذلك فإن كتاب القصة القصيرة يصورون مضامين قصصهم التنويرية على أنها شمس منيرة مثل قول البطل في قصة عبد الله السالمي (بلا هدف وراء القطيع): (تراودني رغبة طارئة في خلع الأبواب والشبابيك.. تعريض الوجوه للشمس.. تجفيف الأشياء المبلولة.. أتصور ألق الضوء في العيون.. فرح الأشياء بميلاد النهار)، أو وصف حلم البطل في قصة جبير المليحان (شمس وشمس، 3 199):(عندما فتح عينيه كان الظلام يعم الكون.. عندما أغمض جفنيه بزغت شمس كبيرة من قلبه، وأخذت تعمل على جمع الظلام وتضعه في أكياس القمامة السوداء وهي تغني.. وتفوح منها رائحة الألوان.. متناثرة على الحقول الواسعة).

يشعر كتاب القصة القصيرة بالظلام يحيط بهم ويتطلعون إلى نشر الضوء في الأماكن المعتمة، وقد يصرخون بوضوح مثلما فعل سيّار بطل قصة (الأشقياء) لإبراهيم الناصر:(ابتلع سيّار ريقه الذي جف من فرط ما بذله لإقناع شيوخ القبيلة بوجهة نظره وأوشك أن يصيح في وجوههم الممتقعة) :(بئس الحياة حياتكم أيها الجهلاء، فليس ثمة أشقى من الواعي في بيئة محدودة الأفق..). يكتشف هؤلاء الكتاب التنويريين أن(مواضع الأضواء في النفوس لم تعد تضئ) (سباعي عثمان (البقعة والضوء)، 64)، وأن الناس من حولهم) هم جميعاً كذلك.. ربما لا رغبة في التغيير.. أو هي متعة أن تكون بلا شئ. إنهم يعرفون كيف يختبئون.. يهربون من أنفسهم.. ملجومون كالغربة.. مأساة أن تكون بلا شيء.. أو تكون محكوماً بذلك! حياة بلا هدف.. جثة تموت بين الكائنات((فهد عبدالرحمن العتيق) في المقهى(1985)، فإنهم يصابون بالإحباط ويصمتون:(حدقت في المكان بشيء من القلق.. مشغول الذهن بأشياء تتكوم.. تختلط. تمتمت: لم يفهمني أحد.. يكونون أعدائي.. أصرخ فيهم: لماذا أنتم.. أنا.. هكذا..

يلذون بالصمت.. ينامون.. فكيف نخرج عن طريق رسموه؟ أبتلع جواباً وأصمت ). (فهد عبدالرحمن العتيق) مجاديف الليل.. (الأسئلة،1985)

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة