Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
فضاءات
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 
شاعرية العنوان في مؤلفات الناقد علي جعفر العلاّق النقدية*
د. دوش بنت فلاح الدوسري

 

 

يجلّي العنوان - غالباً - المضمون، ويأخذ بيد المتلقي نحو المحتوى، وهو بهذا الجسر الأول الذي يصل بين الكاتب والنص من جهة، والمتلقي من جهة أخرى.

إلا أن الأمر نسبي أيضاً، فطبيعة الكتاب ومادته ومحتواه، توجّه صياغة العنوان، فالعنوان في الدراسات العلمية أو الإنسانية - كما يقول د. بسام قطوس - واضح ومباشر، يشف عن المحتوى، بينما يتجه العنوان في الأعمال الإبداعية: قصة وشعراً ورواية.. وجهة أخرى أقل وضوحاً، حاملاً حمولة خصبة من المجاز والرمز والصورة.(1)

أنشودة المطر، في انتظار ما لا يجيء، قال المساء، المطر في الداخل......... كل هذه عناوين شعرية موحية وخصبة بالصورة والمجاز والرمز، لا تقول مضمون النص بوضوح، ولا تنطق به إلا بعد جهد من المتلقي، وبعد حوار مع النص.

ولنتأمل هذه العناوين الأدبية النقدية: استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر، د. علي زايد، الأسطورة في الشعر العربي المعاصر، د. يوسف حلاوي، تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية، د. صبحة علقم..........

من الواضح أن العناوين السابقة تحمل الصفة العلمية في الوضوح والمباشرة والإبانة عن المحتوى والاتجاه والمنهج.

فالنقد الأدبي يتخذ صفة العلمية والوضوح والمباشرة في المادة التي يقدمها.

أما في مؤلفات الدكتور علي جعفر العلاّق أو في أغلبها، فإن العنوان يتخذ وجهة أخرى، ولنتأمل هذه العناوين لبعض كتبه النقدية:

مملكة الغجر 1981م

دماء القصيدة الحديثة 1988م

الدلالة المرئية 2002م

ها هي الغابة.. فأين الأشجار؟ 2007م

قبيلة من الأنهار 2008م

إن العناوين السابقة هي عناوين لدراسات أدبية ونقدية يقدمها المؤلف، وهي قفزة جديدة في النقد العربي الحديث، على حد قراءتي وعلمي، من حيث صياغة عناوين إصداراته صياغة شعرية.. رمزية - إيحائية - مجازية... يشتعل فيها الرمز والصورة، وتتجه إلى طرح إشكالات، أكثر من كونها تخبر وتقرر وتصف.

ويبدو أن للقدرة الإبداعية الشعرية لدى الناقد العلاّق حضوراً في عنونته لكتاباته النقدية، إذ تشتبك القدرتان معاً: القدرة الإبداعية والنقدية، في حضورها المؤسس لعتبة مهمة من عتبات النص النقدي المكتوب.

ويتجاوز الأمر مجرد الحضور المجازي الإيحائي في صياغة العنوان، إلى اشتباك آخر على مستوى المفردات التي بنيت عليها بعض عناوينه النقدية، إذ نلحظ حضوراً لعنصري الماء والنبات:

قبيلة من الأنهار، ها هي الغابة فأين الأشجار؟.. وفي عنونة بعض مقالاته النقدية داخل مؤلفاته أيضاً: سيرة العشب.. سيرة الجسد، الإقامة على الماء، الليل والشعر والماء. وهي مقالات موجودة في كتابه: ها هي الغابة.. فأين الأشجار؟.

وأيضاً: جبرا إبراهيم جبرا: لم يعرف إلا الغيم وأعالي الشجر، نازك الملائكة: اقتحمت البحر وتقدمت جيلاً بأكمله......... وهي موجودة في كتابة: قبيلة من الأنهار.

والماء والنبات حاضران في عناوينه الشعرية أيضاً:

وطن لطيور الماء.. 1975م

شجر العائلة 1979م

فاكهة الماضي 1987م

بل إن الأمر يتجاوز المادة المعجمية للمفردات إلى الصيغة التركيبية للعناوين، فغالبية عناوينه مكونة من كلمتين: مضاف ومضاف إليه: شجر العائلة.. مملكة القصيدة الحديثة..

أو ربما مبتدأ وبعده شبه جملة: وطن لطيور الماء، قبيلة من الأنهار.

إن هذا الاشتباك الأسلوبي لهو في غاية الأهمية، حين ننسلّ لتحليل القدرة الإبداعية ودورها في التوجه النقدي لدى المبدع شكلاً ومضموناً.

ويبدو أن الناقد العلاّق يصوغ عناوينه النقدية وهو على وعي بأنه يتوجه توجهاً جديداً في تشكيل عتبات النصوص النقدية، وأن مثل هذا الانحراف بالعنونة، سيخلق إشكالات لدى المتلقي، الذي سينكسر أفق توقعه تماماً. ولذا نراه - أحياناً - يبين المغزى والمفهوم من عنوانه. وبهذا يظل العنوان متخذاً الصفة المجازية الرمزية، حاملاً هذه الحمولة التخييلية، ولكن من دون أن يربك المتلقي طويلاً، أو يحمله على التفكير والتحليل العميقين.ففي كتابه (قبيلة من الأنهار)، وهو سيرة غيرية لعدد من المبدعين، مثل نازك الملائكة، السياب، فاروق شوشة......... متقاطعة مع قدر من سيرته الذاتية هو نفسه.

في كتابه يحلل بنفسه عنوان الكتاب، إذ يقول: (إن المبدعين قبيلة من الأنهار، أنهار هذه الأرض، التي تظل ريانة أبداً: لا تكف عن الحنين أو الكلام، ولا تتوقف عن تجديد ذاتها).(2) وهو على وعي كبير بأسلوبه الذي يجمع بين علمية النقد، وجماليات اللغة، إذ يقول عن مقالاته في هذا الكتاب: (وفيها من غنائية النثر الملتاع قدر ما فيها من وقفات نقدية جادة أو حميمة).(3) إذاً فهو يبني أسلوبه الخاص في الممارسة النقدية بتقصد، مدركاً هذا التشابك بين نوعين من الكتابة لديه، إذ يوظف إبداعه في تشكيل نقده، ويعطيه صفة إبداعية أخرى. أما كتابه (ها هي الغابة... فأين الأشجار؟)، فيتخذ شكلاً آخر من أشكال تداخل القدرة الإبداعية مع القدرة النقدية. فإضافة إلى التداخل في الصياغة اللغوية الشعرية القائمة على الغموض الموحي والصورة والرمز والسؤال، نجده يختار إحدى مقالات كتابه عنواناً للكتاب كله، تماماً كما يختار الشاعر أو القاص عنوان أحد نصوصه، ليكون عنواناً لإصداره.

والأمر هذه المرة ليس سهلاً واضحاً كسابقه، بل إنه يحتاج إلى شيء قليل من التفكير، وخلق حالة يسيرة من الترقب والبحث والتحليل لدى المتلقي.

إلا أن الكلمة تفضي إلى الكلمة، والجملة تفضي إلى الجملة، ومن ثم ينفض الغموض، وتتضح الدلالة. فهو يتحدث عن المشهد الشعري الراهن، ويرى أنه في تداخل محموم، خليط من الرؤى والأجيال والأساليب، فيبدو غابة مرتبكة في فوضى، تفتقد لأهم عنصر في الغابة، وهو الأشجار. وبالتالي فالشعر العربي الراهن - كما يرى - يفتقر إلى الإحساس الملتهب، انفعال الجسد الحيّ وهو يتعذب أو يبتهج، يستقبل شهوة الحياة أو يستسلم للموت. وكأن الشاعر قد عكف عليها أياماً، وهو يعتصر لغتها، حتى خلت من الندم أو البشاشة، من جنون الفوضى وحكمة الكارثة.

في هذه الغابة الشعرية المتشابكة نقف أمام هذه الخضرة الواهية التي لا تغطي إلا لحاء الأشجار، دون أن تصل إلى قلبها المعبأ بالدخان والكدر، وهذا اللمعان الخارجي الذي يتطاير مع الريح في كل لحظة.(4)

لنلحظ أنه يوظف اللون والعنصر، يوظف النبات واللون الأخضر الذي يوحي، بمعانٍ كثيرة: الرزق والخصب والحيوية والحياة.. ليجسد بذلك المعنى الذي يريد أن يعبر عنه: غياب الحياة والروح في الشعر الراهن.

نستطيع أن نقول إذاً - في لغة شعرية متوازية مع أسلوب الناقد - اخضرار الحرف، هو ما يغيب عن المشهد الشعري الحاضر. فجاء التعبير خصباً موحياً، خصوصاً وأنه قد ارتدى ثوب السؤال، مبتعداً عن النثر بجمله التقريرية، مقترباً من الشعر لغة السؤال. فأين الأشجار؟ متعجباً.. مستبعداً.. باحثاً..

(إن القصيدة الحقة، أو النص المكتمل، ليس جهداً شكلياً محضاً خالياً من دفء الذات. وليس حشداً من المفردات المرصوفة بعناية، بل هو مغامرة الروح وهي تبتكر، من اللغة، وفي اللغة، كياناً حسياً لعذابها الوارف، أو انتصارها العصي على التحقق. إنه لغة تنضح بما تشتمل عليه الذات المبدعة من مرح أو حيرة أو تماسك)(5)

ختاماً، لقد وظف العلاّق إبداعه في نقده بتصميم ووعي، ولم يكن توظيفاً شكلياً بحتاً، وإنما هو توظيف لمعنى ولغاية.

هوامش:

* شاعر وناقد عراقي، حاصل على شهادة الدكتوراه في النقد والأدب الحديث من جامعة أكستر في بريطانيا، ويعمل حالياً في جامعة العين في الإمارات. (المعلومات مستقاة من موقعه الشخصي على الإنترنت).

1- انظر: سيمياء العنوان - ص49

2- قبيلة من الأنهار - ص7

3- السابق ص7

4- انظر: ها هي الغابة: فأين الأشجار - ص30

5- السابق - ص31

الرياض أستاذ مساعد.. متخصصة في الدراسات الأدبية والنقدية الحديثة - قسم اللغة العربية - كلية التربية - جامعة الرياض للبنات.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة