Culture Magazine Monday  17/11/2008 G Issue 261
فضاءات
الأثنين 19 ,ذو القعدة 1429   العدد  261
 

الأوراق!!
أولاد أحمد

 

 

- من بحوزته أوراق بيضاء؟

- كم تريد من ورقة؟

- لا أعرف بالضبط، نسيت مكيال القريحة في البيت.

- خذ هذه الأوراق الخمسين. لا داعي لأن ترجعها لي. عدّها حين تكون وحيداً. ذلك كلّ ما أملك. إلى اللّقاء.

كان لابدّ أن أتوسّل طاولة منزوية بين الحشود وأجلس - كعادتي - للكتابة. وها أنا قد جلست.

أوّل معظلة اعترضتني هي أن سيقان الكرسيّ الأربع غير متساوية بحيث بدا لي الكرسيّ وكأنه يعرج بطبيعته.

أن يعرج الكرسيّ من تلقاء نفسه، أو من كثرة الاستعمال، مسألة يتساوى في الانتباه إليها البلهاء والنّبهاء على حدّ سواء. ما يلفت الانتباه - حقيقة - هو أن يعرج الكرسي وهو ينوء بحمل كاتب لم يفرغ، بعد من عدّ الورقات التي بين يديه ولم يقرّر ماذا سيكتب بالضبط؟ لمن سيكتب؟ وأين سينشر ما سيكتب؟

عندما نقول معظلة أولى فإن معظلة ثانية تكون بصدد تحيّن الفرصة المواتية لتصدّر موقعها في السياق. وهاهي المعضلة الثانية كما هي:

السيد الذي تفضّل - قبل حين - بمدّي بحوالي خمسين ورقة، وادّعى أن تلك الأوراق هي كل ما يملك، ثم قال لي مودّعاً:

- (عدّها حين تكون وحيداً) فعل كلّ ذلك على رؤوس الملأ دون أن يؤكد بوضوح تام أن تلك الأوراق بيضاء وشبيهة بالأوراق المستعملة في الكتابة والرقن وفي الإدارة والنسخ الآلي.

والغالب على الظنّ أنه لم يجد دافعاً للتأكيد على أن تلك الأوراق بيضاء لمجرّد أنها بيضاء بالفعل، بحيث يصبح الإيجاز أبلغ من الخطابة خصوصاً في عصر الهاتف الجوّال حيث أصبح استعمال اللغة، أية لغة- مسبق الدّفع.

حين تتسلّم أوراقاً على رؤوس الملأ، وتكون تلك الأوراق خمسين ورقة، وتنزوي في طاولة قصيّة، فإن مهنة الكتابة هي آخر ما سيفكر فيها المحيطون بك. خصوصاً وأن لا أحد منهم يحمل بطاقة هويّة تثبت أنه طيف أو ملاك.

في مثل هذه الحالات، حيث تتحيون طبائع البشر يتعيّن عليك أن تجهّز أجوبة لا حصر لها على أسئلة لا تزال تختمر في أذهان الحسّاد والمتآمرين المحيطين بك وأيضاً في أذهان أولئك الذين أظهروا لك المودّة بمناسبة وبغير مناسبة.

وبما أنك خبرتهم وخبرت تبحّرهم في المزاح السّخيف، فإن عليك أن لا تستغرب من أسئلة كهذه:

- ما لون تلك الأوراق؟ هل هي خضراء أم ملوّنة؟

- لماذا هي خمسون بالتمام والكمال؟

- هل اطلعت على جداول الصرف المالي في صحف اليوم؟

- أين سافرت قبل مدّة؟

- ما هوية السيد الذي ناولك الأوراق الخمسين؟

لم يقرأ أحد، من المحيطين بك، أساطير القدماء ولا كتابات فرانز كافكا، ومع ذلك فقد تحوّلت - في رمشة عين - من كاتب إلى عميل، ومن عميل إلى سمسار، ومن سمسار إلى خائن!

إنه لخطأ فادح ارتكبته ذلك الصباح، حين جلست للكتابة وطلبت أوراقاً بيضاء على رؤوس الملأ، دون أن تطلب إذناً من أحد وكأنك حرّ في تعكير صفاء البياض بحبرك النزق.

خطأ.. حاول تجنّبه في المستقبل خصوصاً إذا كان المحيطون بك أناساً لا يكتبون.

تونس


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة