Culture Magazine Monday  19/05/2008 G Issue 248
فضاءات
الأثنين 14 ,جمادى الاولى 1429   العدد  248
 
ستون عاماً
(ما بين مأزق الهزيمة والوعي بالانكسار)
سهام القحطاني

 

 

ضحكنا على التاريخ فقلنا الشرخ لن يُكسر الصرح.. ودللنا الهزيمة فوصفناها بالنكسة.. وما بين الهزيمة والنكسة.. استعمار بلاغي للغة توصيفنا للأشياء، لا تدرك منطقه، كما لا تدرك غايته، لعلها طبيعة هوية العربي كونها (كائن لغوي)، مما يفقد اللغة صفة المعيارية ويقربها من صفة المخادعة بالعمد والترصد.. لتظل تمارس أقدم مهنة لها الإغواء والتلاعب بمشاعر الناس وأفكارهم.

ستون عاما.. ما بين جدلية النكسة والهزيمة.. أفكار وتحليلات وتأويلات وكتب تمارس بصوت مرتفع مزعج ممارسة تلك الجدلية.. الأسباب والمسئولون والنتائج.. جدلية تفرق دم المسئولية عنها بين قبائل العروبة في التفاف غريب يدعم جغرافية الاتجاهات الأربعة وتفريعاتها.. وخارطة كبيرة تكسبك التوهان إن لم تكن من هواة حل الكلمات المتقاطعة.. مما يصعّب مسألة تحديد المسئول عن تلك الهزيمة.. أفراد.. تيارات.. طموحات.. أم مؤامرة سيقت النعاج العربية بموجبها إلى المذبح.. كلها احتمالات تزيد من تشابك اختلاط الحابل بالنابل.. ولا توضح الصورة.. ثم أصبحنا لم نعد نفرق بين الخائن من الضحية؛ عندما ارتدى الجميع عباءة النضال وعمامة الكفاح ولم نعد نعرف من يطلق الرصاص على من؟ فقد تساوت فوهات البنادق في رواية الأخوة الأعداء، عندما اجتمعوا في ساحة صراع واحدة.. يقتل بعضهم بعض..

ستون عاما.. وما يزال السؤال لإيجاد الفروق السبعة بين النكسة والهزيمة.. قائما.. وتساؤلات التاريخ الحقيقي تجلد ذاكرة العرب المثقوبة.. من غرر بعذرية الأرض..؟ ومن زيّف تاريخ الهزيمة..؟ ومن قايض على كرامة الهوية؟.

هذه ليست أسئلة لفتح ملف مأزق الهزيمة والوعي بالانكسار.. وليس تمردا على المستور المختوم بالشمع الأحمر، الذي يحمل لوحة مرسوم فوقها جمجمة وعظمتين لنفهم أنه خطر وممنوع الاقتراب.. بل تعبيرا غاضبا في زمن أصبح الغضب مظهرا من مظاهر الإرهاب.. فأنا أغضب.. إذن أنا موجود.

ستون عاما.. ما بين النكسة والهزيمة.. حضر المتفائلون بالسلام.. وحضر المتشدقون بالمقاومة.. وتصارعوا.. على حق الوقوف على الطالة المستطيلة.. جميعهم وقفوا فوق سطحها.. فتكسرّت طاولة الحوار.. وسقطوا جميعا.. ! مثلما سقط الصرح بجراح الشرخ.. ونسوا أن من أوليات الدرس الوطني (الاتحاد قوة)، لكن الجميع يفضل العصا المفردة التي تشبه عصا ساحرة سندريلا والتي تجلب القوة والسلطان..

ما بين النكسة والهزيمة.. ما تزال قنابل وصواريخ المقاومة تزاحم أغنية السلام في تشيع جنائز جثث الأطفال والنساء.. التي يصرخ مشيعوها (بأي ذنب قتلت).. لكن القهر والجهل وصراخ الخطابات الزائفة تعلو كل صراخ وهكذا ضاع صوت السؤال في ضجيج خطابات أتباع المقاومة والسلام.. وأضفنا ثنائية السلام والمقاومة بجوار جدلية النكسة والهزيمة.. وتفرقنا شيعا وفرقا يقاتل بعضها بعضا داخل تلك الثنائيات.. ثنائيات صنعت من المتناقض متونا لتأجيج الصراعات وأصبحت (سجل أنا عربي) كذبة شاعر هو نفسه أعلن براءته من هوية، لم يعد فيها ما يميزها من قيمة تشجعك على الانتساب إليها.. والافتخار بها.

ستون عاما.. ولم نقرر بعد أهي نكسة أم نكبة أم هزيمة.. وحيرة القرار ولّد حيرة التوصيف.. هل نحن منهزمون؟ أو منتكسون؟ أو منكوبون..؟ وحيرة التوصيف أنتجت حيرة المواقف.. هل نحن طلاب سلام؟.. أم طلاب ثأر؟.. أم طلاب حق..؟ مخروط غامض لا تعرف عمقه من سطحه لأنه سريع القلب.. إنه أحد دروس الهزيمة.. كل شيء مقلوب حتى تضمن ثباته.

ستون عاما.. وما يزال يؤمن بعضنا أن الموت طريق للخلاص والحرية والإنقاذ.. ستون عاما ونحن نحترف الموت ونصنّعه ونصدّره وندعو له وما يزال الصرح محطما.. إذن تلك نظرية فاشلة.. والحق الضائع لا يعود بالموت.. بل بالحوار والحكمة والعلم والثقافة.. وغير ذلك لن نصبح سوى مجموعة من الهنود الحمر المتوحشين يأكلون بعضهم بعض إذا جاعوا ولم يكن صنهم من تمر..

ستون عاما.. وما يزال الشعراء وأرباب اللغة والخطابات ومن يتبعهم من الغاوين يخدعون الناس بأن السقوط مؤقت.. والتحطيم وهمي مع أننا نسير على بقايا المحطم.. والانكسار وهم بصري مع أننا فقدنا ساقي القرار ويديه وعينيه.. والهزيمة اختبار لقدرة شجاعة الفحولة والرجولة العربيتين، فاختلط مفهوم الشجاعة بالعنف والإرهاب وضل الكثير طريق الجنة.. ، ولم ينتبهوا إلى أن الصرح المتهاوي محطم.. والبقايا برهان سقوط، مثلما البكاء والألم والشتات برهان سقوط.

ستون عاما.. ونحن نلملم بقايا الصرح القديم المتهدم على أمل اكتمال الصورة المشروخة.. لكننا نسينا أن تحنيط جثث الموتى لا يعيد لهم الأرواح.. مثلما أن الذكريات لا تعيد الزمن للوراء.. إذن الرهان على إعادة الزمن رهان لا تضمنه أي ضوابط أو استحقاقات.. وتلاحقت الأجيال.. ورثنا وظيفة الوعي بالانكسار.. ولم نرث قوة تذكر الصورة في منشئها الأول.. ففشلنا في لعبة إعادة تركيب الصورة ؛لأن الذاكرة لم تعد مؤهلة لتذكر ملامح الصرح القديم..

ستون عامان.. ونحن نحتفظ بالأحلام القديمة.. والآمال القديمة.. والأوهام القديمة.. والتاريخ القديم.. والأسلحة القديمة.. والشعر القديم.. نحتفظ بمفاتيح البيوت القديمة التي تحولت إلى مستوطنات.. والأبواب تتساوى.. لكن المفاتيح تختلف، إنها مسلّمة لم نكتشفها حتى الآن؛ أن المتشابهات لا تفترض التطابق.. لأننا شعب نعشق كل ما هو قديم ونمجد كل ما هو قديم،ولذلك لم نستطع حتى اليوم التحرر من أسر سجون تاريخنا القديم.. مع أننا نعاني من ضعف الذاكرة..

نحن شعوب تكره الاعتراف بالهزيمة.. لأننا رومانسيون وعاطفيون فشلنا في عقلنة رومانسيتنا وعواطفنا.. أو أظن ذلك.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة seham_h_a@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة