Culture Magazine Monday  21/04/2008 G Issue 244
فضاءات
الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1429   العدد  244
 

صدور ترجمة جديدة لرباعيته
عُمر الخَيَّام.. نهايةٌ تبتدئ وبدءٌ لا ينتهي
محمد عبدالله الهويمل

 

 

على الرغم من أن جمالها لا يعدو تناقضها وقلقها إلا أن طابور ترجماتها ما زال ممتداً... تلك هي رباعيات عمر الخيام التي ملأت دنيا القلقين وشغلت أسئلتهم ملئاً وشغلاً عابرين للقارات والحقب.. والأسئلة عن الخيّام أعظم شأناً من أسئلته عن وجوده، فأيُّ نموذج إبداعي إنساني طرحته رباعياته وأيّ دلالة لهذه الزخم الصاخب من الاهتمام والالتفاف حول رباعيات عابثه كُتبت في أوقات الفراغ والحيرة المجانية والدنيا إذّاك عامرة بهذا النوع من مدونات الحيرة والشك.

أمضي إلى أن الشخصية الكارزمية لعمر الخيام كانت محركاً فاعلاً للاهتمام بشعره عموماً في الحراك العلمي والثقافي الذي ساهم فيه جعله محوراً في مدارات جمالية شتّى إذ الشك العلمي هو مفتتح للحظة جمالية تنتهي إلى نظرية تتلقاها دوائره الضيقة والواسعة بالقبول والشفافية والخوض في مخاطر الدهشة فهو يدغدغ عقده الإنسان والعالم الفقير والعبد والمهزوم والمهمش غير أن الخيام كان بمنأىً من طابور العقد، هذا فضلاً عن كونه منتمياً إلى المذهب السنّي المنتصر على مدى التاريخ الإسلامي. ولعل هذا ما عزّز الشرط الكارزمي وجعل من حيرته الوجودية مقبولية أكثر.

ومن المسلم به أن تدشين نموذج إبداعي يتطلب مزيداً من الضغط أو التقليل من شأن الذائقة في سبيل تسويق هذا النموذج وإعلاء شأنه بوصفه خطاباً وأيديولوجية إنسانية متكاملة. فذيوع قصيدة أنشودة المطر للسّيّاب كان ضرورة لضرورة وجود وسيط تسويقي تتواطأ عليه جملة عريضة من الأذواق فتنادى لها النقاء والأكاديميون الذين آمنوا بالخطاب وجعلوا من أنشودة المطر شعاراً لحزبية الخطاب. ولا أدل من أكاديميين تكلفوا تدريسها على غير قناعة ذوقية ولكنها تبقى مادة للتبشير بالخطاب. وهذا ما ينسحب طوعاً على رباعيات الخيام، إذ هي مادة ثقافية اتجهت لتنميط وعي جديد تتهامس به أصوات مهمشة، وآية ذلك أنّ المترجمين لهذه الرباعيات تبنّوا الوزن وليس النثر، وكانت غايتهم هو تقديم إضافة تأييد لتوسيع نطاق التبشير، ولو كان نثراً لكانت ترجمته صمّاء يرعاها موقف عاطفي، فالترجمات مساهمة دعم وليس نقل خالٍ من تقرير موقف حزبي ذي صلة بالسؤال الوجودي. ويتمطهر هذا بجلاء عند أحمد الصافي النجفي الذي أبدع أسئلة داخل الأسئلة ولغة داخل اللغة بل رباعيات داخل الرباعيات لتنتهي مهمة الخيام بكتابة رباعياته ويبدأ الخطاب والحزب ومشروع السؤال. فكثافة الترجمات هو التفاف على السؤال لكي لا يموت ولتحقيق الشهرة التي تتطلب الخوض في جدل الترجمة لكاريزما عمر الخيام.

ولعل ما يجدر طرحه في هذا السياق الساخن هو بسط جدلية الشك الفارسي وتميزها عند أي تجربة شك أخرى. من المهم أن نعي شروط نمط التلقي والتأويل الفارسي واختلافه الجذري عن العربي. وعلى الرغم من تجاوز التجربتين إلاّ أن الجذر العرقي يلعب دوراً في تحديد الملامح لاسيما قبل ظهور الإسلام الذي أحدث شيئاً من التبديل في الشخصيتين، غير أن فن الشك كان طبعاً وليس خُلُقاً عن متأملة الفُرس، ويحضر هنا رأي الجاحظ الذي ربط البداهة والتلقائية والارتجال بالعربي على خلاف الفارسي المرتبط بالخلوة والتأمل. ولعل هذا ما جعل العرب أمّة يقين، فإيمانهم مطلق وإلحادهم مطلق، في حين أن الفرس أمّة يقين وإلحاد وشك. ومن حكمة الله أن تكون خاتمة الرسالة الإلهية عربية كُتب لها نجاح سريع لعدم وجود منطقة شك رمادية فلسفية، بل إن الزندقة فيما بعد ظهرت من العصر العباسي من رواد هذه المنطقة الرمادية من الفرس.

فن الرباعيات لعب دوراً في تحجيم اللحظة اليقينية والإلحادية والشكية، ومنح كلاً منها حقهُ الطبيعي في الظهور حتى ضمن تجربة عامة قلقة. والسؤال الأهم كيف للخّيام أن يكون عالماً في الفلك والكيمياء وهو على هذا النحو من التردد، فما بين رباعية وأخرى يبرز لنا برؤية مناقضة لسابقتها ولاحقتها، والردّ هو أن العلمي يتحرك في ثنائبة الصواب والخطأ. والشك هنا نقلة ثرية خاطفة بينهما وليس خياراً مستقلاً كما هو في الوجوديات والإلهيات ، فالأول منهما جاف والثاني خصب وهكذا يكون الخيام العلمي والفلسفي. وفي تجاذبات الشك العلمي والفلسفي تنهض رمزية الخمرة والمرأة ليعززا من حضور الآخر وغيابه، فهما لا يؤديان إلى غياب الأسئلة كما يذهب البعض بل لحضور المادة (الخمرة - المرأة) في فراغ المجردات التي تحرض على القلق، فاللامادي يستدعي بالضرورة وجود الفكرة بكل أبعادها الغيبية اليقينية أو الشكية أو الخرافية وانحسارها يكون بتعزيز الحسي الذي يمنح المكان كثافة تأخذ مداها باللذة. فاللذة تعبر عن سلطة المكان المادي في مناخات الشك.

إن الخمر والمرأة تفاعل حسي واندماج بل احتماء بالمكان الذي هو حالة يقينة تقع تحت الحواس وتمنح الخيام حالاً من الإيمان بوجود شيء في هذا العالم بعد أن اعتنق اللاأبالية وشك في قدرة عقله على بلوغ المطلق الروحي الذي لا يفسر إلاّ بالمادي في نهاية الأمر. ثم لماذا يلوذ الخيام بأفعال الأمر الصاخبة في لحظاته الخمرية (أدِرْ) ، (هات)، (ناولني)، (اسكب)، (اشرب)، (انزع) وكلها دعوة للشراب والاحتفاء في المكان والخمرة والمرأة واللذة، فهي أفعال أمر هستيرية يطلقها الثاكل على فقيده والشاعر على طلله حتى وإن استمتع الخيام بالخمرة والمرأة فإنها تبقى من الممكنات الوجودية لا أكثر. إن دعوة أحمد شوقي (هاتها) وبشارة الخوري (هاتها) هي نقل صناعي استنساخي جاف لخصوبة (هاتها) للخيام، بل هما لإكمال سناريو لذة مناطها اللغة وحسب دون استحضار لجدلية الغيبي والمادي ويقينيه المكان ولكنه انعكاس لنجاح التبشير المنظم بنموذج الخيام... فكم من مبشر بأنشودة المطر وهو لا يعي أيّاً من معانيها، وكم من مبشر برباعيات الخيام وهو لا يعرف عنهن إلا كاريزما شاعرها أو قائلها الذي يبقى بدءاً قالتْه رباعيته ولم يقْلها.

- الرياض hm32@hotmail.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة