Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 
ثقافة الوشاية
أين تبدأ اللعبة وأين تنتهي؟«2»
الحق بالتزام الصمتمنذر بدر حلّوم

 

 

ثمّة حالات يكون من الصعب فيها على الإنسان أن يبت بطبيعة السلوك الذي يمارسه هو نفسه. وخاصة حين لا توصله المفاضلة بين السلوكات، التي قد يلجأ إليها إلى قرار يبدد مخاوفه ويحسم وساوسه وتركن إليه نفسه. كحال الشاهد على عمل، للأخلاق فيه كلمة قد تكون على تضاد مع الكلمة التي للقانون. هكذا هي، مثلا، حالة المفاضلة بين أفعال السرقة والكذب والوشاية التي يمكن أن تحضر معاً، عند ضبطنا لأحد ما يأخذ نسخة غير مرخّص بها من كتاب أو فيلم أو أي شيء آخر محمي بقانون الملكية! ففعل النسخ هنا فعل سرقة وهو يدان أوّلا من ناحية عدم قانونيته وليس من ناحية لا أخلاقيته، لكن سلوك الشاهد عليه يرتكز إلى الأخلاق أكثر مما يرتكز إلى القانون، ففي أن تسكت عن الناسخ صراع بين فعل الوشاية المدان أخلاقيا وغير المنصوص عليه قانونيا، ذلك أنّ من واجب كل مواطن أن يمارسه، ففي ممارسته حماية للقانون وترسيخا لفكرة الدولة، وبين الحق بالصمت وعدم إعلان الشخص عمّا أوقعه حظّه في أن يكون شاهدا عليه، أي، بمعنى من المعاني، الحق بالكذب. أليس الأمر مشابها، هنا، لما يسمّى بالكذب الأبيض الذي يقال إنّه قد ينجي مقابل قول للحقيقة قد يهلك، فيمتدح الكذب على بياضه وتذم الحقيقة على سوادها!؟

من وجهة نظر حقوقية، يجب ألا يكون قابلا للمساومة حق البشر في التزام الصمت متى شاؤوا الصمت، كما يجب ألا تكون قابلة للمراوغة والتلفيق إدانة كل فعل إكراهٍ يقصد منه انتزاع قول يصمت عنه صاحبه. ونحن، للأسف، لمّا تصبح جزءا أصيلا من إفهامنا بعد فكرة إدانة العنف الذي يمارس على البشر لإكراههم على قول يتمنّعون عنه، حماية لأعراضهم وكراماتهم وربّما أموالهم وأوطانهم، فكرة إدانة فعل العنف بصرف النظر عن شكله وعن مصدره وعمّن يقع عليه حتى لو كان عدوّا لنا، وبصرف النظر عن الأهداف التي يرتكز عليها أو يتجمّل بها أو يتلطى خلفها. من طبيعة ذلك العنف الذي يمارس على المعتقلين والسجناء وعلى الأسرى.. وعلى الذين لا تسمح لهم منظوماتهم الأخلاقية أو مبادئهم العامّة أو الخاصة بإعلان قول يرون فيه ضررا لأنفسهم أو للغير، حتى لو رأت فيه سلطة ما غير ذلك.

ولعلها تكون مفيدة في هذا السياق معالجة ميلان كونديرا لفكرة حق المرء في ألا يجيب، حين يجد نفسه مضطرا إلى الكذب، وبالتالي في الكذب إذا ما دُفع إلى الإجابة زورا. يقول كونديرا تحت عنوان (الوصية الحادية عشرة) من روايته (الخلود): (تفضّلوا ولاحظوا أن موسى لم يضع وصية (لا تكذب) بين وصايا الله العشر. ليس هذا مصادفة! لأن من يقول (لا تكذب!) لا بد أنّه قال قبلها (أجب!)، بينما لم يعط الله أحدا الحق بمطالبة غيره بجواب). والحق بعدم الإجابة هنا حق مانع للكذب وللوشاية سواء ضد الذات أو الآخر، ومانع لقول لمّا يتبيّن الحقيقة بعد. وهذا الحق بالصمت تكفله قوانين كثير من الدول، لكن أحدا لا يستطيع أن يكفله في أقبية الاستجواب في المؤسسات الأمنية. فهلاّ فكّرنا بحق الآخر في الصمت كواحد من الحقوق المؤسِّسة لإدانة التعذيب، وانتزاع القول بالقوّة والإكراه، حتى إذا ما وضعتنا الحياة في نزال من هذا القبيل وجدنا إلى جانبنا من يناصر حقّنا في صمتٍ يحفظ عزّة أنفسنا وربّما أشياء أخرى!!

- اللاذقية


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة