Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

مفتاح الباب الخلفيّ
(في قراءة النصّ الذي تكتبه المرأة)
د. شهلا العجيلي

 

 

إنّنا نكتب بوصفنا امرأة واحدة !

أي نحن النساء نكتب تاريخيّاً، وفي أيّ مكان كنّا، لنكمل حلم المرأة الأولى ونطوره، ونعملُ متآزرات ولو بطريقة غير واعية.

أمّا عنك أيّها المتلقّي رجلاً كنت أم امرأة، فأعرف أنك حينما تقرأ اسمي على غلاف رواية، فإنّ فخاخ الجسد تبثّ إشارات البدء، ومعجم اللغة الشعريّة سينفتح، والتجربة الذاتية للكاتبة ستكون حاضرة بقوّة، وسيشرع أفق توقّعاتك إلى علاقة الرجل بالمرأة، وتجربة الظلم، والتعنيف الجسديّ، وستفتح ملفات المساواة و التحرش، والاغتصاب، والعنوسة، والحمل، والولادة.

لكنّ (عين الهرّ) روايتي ستخرج على أفق توقعاتك أيها المتلقي الكريم، ولكن ليس إذا قسرت النصّ أو قسرت ذاتك على أن تدخله من عتبة النسويّة لأنّ مؤلّفته امرأة، فثمّة عتبات أخرى واسعة ولامعة تتصدّر النصّ، لكنّ الثقافة فقط، التي فرضت ذاتها على النصّ، كما فرضتها على طريقة اللباس، والكلام، والتعامل مع الجار، تجعلك لا ترى في نصّ غني مثل (عين الهر) سوى قضيّة امرأة تعاني وصاية بطريركيّة, وبذلك لن تختلف (أيوبة) بطلة روايتي والراوية المثقفة، البطلة الموازية، التي لا اسم لها، عن أيّة امرأة في أيّة رواية نسويّة أخرى.

لقد عمدت في (عين الهرّ) أن أقدّم شيفرات للمتلقي يقارب بها نصّي بأدوات أخرى غير الأدوات التي يقارب بها القضايا المطروحة والمكرّرة، فإذا أسقط المتلقّي من حسابه أدوات المقاربة النسويّة لن يتمكّن إطلاقاً من تفريغ النصّ.

تشكّل الكتابة الروائيّة بحثاً معرفيّاً، كما هي الأبحاث المعرفيّة الأخرى، لكنّه بحث لا ينفصل فيه الذاتيّ عن الموضوعيّ، كما لا ينفصل فيه الجماليّ عن المعرفيّ، فالرواية وإن كانت علم الإنسان، فهي علم الأشياء المحيطة الأخرى، ولطالما علمتني الروايات التي قرأتها: زراعة البنّ، وصناعة القوارب، وتركيب العطور، مثلما علمتني تصنيع الحزن والفرح، والحدس بألم الآخرين ومعرفة مواطن مكرهم ونقاط ضعفهم وقوّتهم.

ليست (عين الهر) - والذي قرأها يعرف - ليست مجموعة من قصص الحب الخائبة، وليست هي فقط ملفّات الفساد السياسيّ والديني والاجتماعيّ التي فتحتها هنا وهناك في سيرورة السرد، إنّها بحث في الحجر الثمين وخواصّه الفيزيائيّة والكيميائيّة، وطريقة قصّه وشطفه وصقله، وحضوره التاريخيّ وعلاقته بالإنسان، ماذا يمنح وكيف يفعل.

لقد أمضيت سنتين ونيّف بين كتب التاريخ، وكتب الحجر والجواهر، و مختبرات المشتغلين بهذا الحقل، وورشات الصاغة، وصالات عرضهم، حتّى تعلّمت الكثير عن عالم الحجر والجواهر، وقمت بتصميم المجوهرات، وقد تمّ تنفيذ أحد تصاميمي.

كنت في الوقت ذاته أشتغل على الجانب الآخر من النصّ وهو التجربة الروحانيّة العرفانيّة أو التصوّف كما عرفته الثقافة غير العالمة، هذه التجربة التي عاينتها شخصيّاً في طفولتي،كما عاينتها بطلتي (أيوبة) في صباها، وكما انخرط فيها الرجل الذي أحبته وتزوجته.

لقد شكّلت التجربة الصوفيّة بالمفهوم الذي ورد في عين الهرّ أحد تقاليد عائلتي، لكنني لم أكتف بها، إذ تردّدت على حلقات الذكر، وجلسات الذاكرين من طرائق مختلفة في سوريّة، وفي لبنان، وفي الجزائر، ولعلّ عامين بل ثلاثة من البحث من أجل كتابة رواية، وعاماً رابعاً للكتابة هي المدّة التي يحتاجها إعداد رسالة دكتوراه.

لا شكّ في أنّ الكتابة الروائيّة كتابة واعيّة، وأرباب الإبداع يعرفون ذلك جيّداً، هي قرار، ومثابرة، ووعي، وإرادة، ومخطّط يمكن أن يتمّ تعديله مراراً، ونسفه أحياناً، ولكن عبر الوعي والإرادة، لذا كنت قد قررت في لحظة وعي أن أكتب بالخروج على توقعك أيّها المتلقّي، لاسيما في قضية الجسد، فمسألة اقتحام المقدس والمدنس أو (التابو) لاتعنيني اليوم وأنا بنت القرن الحادي والعشرين ذلك أنّ البورنوغرافيك نوع من الكتابة، وليس الكتابة كلّها، بل معظم الكتابات التي تتعمّده، وتقسر ذاتها عليه تنمّ على ضعف المبدع الذي لا يستطيع إمتاع المتلقي وإدهاشه إلا عبر كتابة نصّ عنيف، أي باقتحام الجسد ، أو الثوابت، وقد تنمّ على استسهال للكتابة الروائية، حتى لو حقق الكتاب نسبة مبيعات عالية.

قدّمت الدين بتجربة روحانيّة، وكما أحب أن تكون علاقة الناس به، ولم أجهر بنموذج رجل الدين، أو المتديّن لا المسلم ولا المسيحيّ، إذ بتّ أمج النماذج الروائيّة التي تقدم الملحد المتحرر، أو المتديّن الظلاميّ، أو البراغماتيّ، وتعلن تذمّرها من (التابو) عبر تحدّيه، أو كسره، أو الإساء ة إليه.

قدّمت ب (أيوبة) نموذج المرأة التي لم تخن منطقها، ولا منطق النص، على الرغم من أنّ كثراً توقّعوا منها أن تتعهّر، ومع ذلك لم تتعهّر، بل أتقنت كيف تكون امرأة مشتهاة.

خلقت عالماً أشبه ب (الإكزوتيك) عبر أسئلة فلسفيّة بسيطة، منها: كيف يمكننا أن نحب ولا نريد، وأن نريد ولا نحب؟ وعبر عالم الحجر والجواهر، والتجربة العرفانيّة، واللعبة السرديّة التي ألهبتها رسائل إلكترونيّة تبيّن أنّها من مجهول تحكم بمصير قصّة الحب بين الراوية وصديقها الذي حكت له حكاية (أيوبة)، كما اشترك في صناعة النصّ (الآخرُ ) الذي ينتمي إلى نسق دينيّ مغاير، وكذلك المكان، والعمارة فيه تحديداً . لكنّ النقد ما زال متوقفاً عند مفاتيح تقليدية، لم يرتق معها إلى شفافية التجربة الصوفية، فألهته الوصاية البطريركيّة عن اكتشاف المرأة التي صارت تقرأ العالم، وترى الله من حركة النمل، وحفيف الشجر، وتموّجات الحجر الثمين.

أعود فأقول إنّ كتابتنا نحن النساء، وهذا ما أهجس به، وكنته في (عين الهرّ) كتابة مختلفة وليست مضادة، لأننا مختلفات، تماماً كما أنكم مختلفون، أما كتابتي فمختلفة عن كتابتهن لأنني أيضاً مختلفة عنهن بقدَر ما هنّ مختلفاتٌ عنّي، ولو فكّر المرء بأنّ هويته لا تتطابق مع هويّة أمّه أو أبيه أو أخيه، سيغدو الاختلاف فكرة مثيرة للغنى والتكامل، لا فكرة مشحونة باعتبارات الدونيّة، والتوجّس، والعداء.

***

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- حلب


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة