Culture Magazine Monday  23/06/2008 G Issue 253
فضاءات
الأثنين 19 ,جمادى الثانية 1429   العدد  253
 

المعرفة وأوهام (الخلق) المحض
د. فيصل درّاج

 

 

هل هناك بداية مطلقة للمعرفة لا بداية قبلها؟ وما العلاقة بين ماضي المعرفة وحاضرها، وهل هناك معرفة ممكنة من دون تقصي التاريخ الذي أفضى إليها؟ الإجابة، نظرياً، معروفة، فلا أحد يماري في شيء محدد عنوانه (تاريخ المعرفة)، ولا إنسان يدعي إمكانية الخلق من عدم. مع ذلك، فإن بعض الأدباء العرب، في الرواية أو في النقد، لا يقبل بالبديهيات أو ما يشبهها، معتقداً أن الإبداع فعل غير مسبوق، لا يحتاج إلى ما سبقه ولا يحيل، لزوماً، على ما يتلوه.

يظن بعض الروائيين العرب من الجيل الجديد أن الرواية خلق ذاتي، وأن الروائي الحق لا يحتاج إلا إلى عنصرين هما: اللغة والمخيلة، ينطوي هذا التصور على وهم كبير، تترجمه أعمال ضعيفة المستوى، ذلك أن التجديد الروائي لا يُرى خارج تاريخ الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه، ولا يُعقل بمعزل عن التجارب الروائية المتعددة، بل إن الإنتاج الروائي، الجدير بالقراءة، هو الذي ينفتح على ألوان متعددة من المعرفة، فلم يكتب نجيب محفوظ (رواياته التاريخية) إلا بعد أن ألم بالتاريخ الفرعوني إلماماً كبيراً، حتى كاد أن يصبح مختصاً بتاريخ مصر القديمة، وحين بدأ في كتابة ثلاثيته الشهيرة (زقاق المدق، قصر الشوق، السكرية) هيّأ لها مادة فلسفية وأدبية وتاريخية واسعة، فاستفاد من التصوف الإسلامي وفلسفة شوبنهاور، ومن وقائع ثورة 1919 وروايات الألماني توماس مان، صدر عمل محفوظ عن اجتهاد واسع، وعن عمل دؤوب لا ينقصه الصبر والمجالدة، وكذلك حال جمال الغيطاني الذي وصل إلى عمله الكبير (الزيني بركات) مسترشداً بالمؤرخ المصري القديم ابن إياس، ومضيفاً إليه أشياء من كتب (المقريزي)، وهو مؤرخ قديم آخر، والواضح، في الحالين، أن الحديث عن (الخلق المحض) مجرد خرافة، تحيل على الكسل والجهل تارة، وتحيل على أمراض نفسية كثيرة، تارة أخرى.

ومثلما أن بعض الأدعياء من الروائيين الجدد لا يعترف إلا بذاته (المبدعة)، فإن بعضاً من النقاد العرب، شباباً كانوا أو غير ذلك، يضع الآخرين خارجه، مكتفياً بما قرّر واقترح، متوهماً أنه بداية البدايات، وأن ما جاء به الغير لغواً لا يساوي عناء قراءته، وبسبب ذلك ينظر إلى الجهود النقدية العربية، في النصف الأول من القرن العشرين، باستهانة كبرى، دون أن يعرف عنها شيئاً كثيراً، فهو يسخر من جهود أحمد أمين وينظر بعبث إلى تأملات يحيى حقي اللامعة، ولا يعنيه ما ترك محمد مندور بكثير أو قليل، ولا يختلف موقفه من النقاد العرب المعاصرين، مثل عصفور والغذامي وكمال أبو ديب، فإن استشهد ببعضهم كان ذلك من باب (التقميش) لا أكثر، أما الموروث النقد الأدبي العربي القديم، المتمثل بابن قتيبة والصولي والعسكري والجاحظ وغيرهم، فهو يأخذ لدى المكتفين ب(الإبداع المحض) أحد شكلين: الشكل الأبسط هو إغفاله تماماً وعدم ذكره أو التعرّض إليه، والشكل الثاني اعتباره مادة مدرسية (ميتة) لا علاقة لها بالحاضر ولا يستطيع الحاضر أن يطلب منها شيئاً، يترك الاكتفاء بالذات المفردة (المبدعة) آثاره في أكثر من اتجاه، ذلك أن الذي يستخف بموروثه يستخف، لزوماً، بالموروث النقدي الإنساني كله، ولهذا فإن التمركز حول الذات لا يطرد من رحابه (الجاحظ) فقط، بل يطرد أيضاً تاريخ النقد من أفلاطون إلى (الرومانتيكيين) الإنجليز، أو الألمان، مروراً بأرسطو ونظرية المحاكاة ومعنى الأدب والفن في فلسفة هيجل وغيره، والواضح في هذا التصور الذي يجمل الجهل ويتشدق بالمعرفة، أمران: أولهما الاستخفاف بمعنى النقد الذي هو حوار مفتوح بين الثقافة الموروثة والثقافة الإنسانية، وثانيهما العجز الأكيد عن تقديم معرفة مفيدة، ذلك أن كل جهد نقدي، كما كل جهد معرفي، حوار مع جهود أخرى، يقال عادة: تمثل كل إضافة فكرية فاعلة استئنافاً لمعارف سابقة وانزياحاً عنها في آن: تستأنفها وهي تحاورها، وتنزاح عنها وهي تضيف إليها جديداً، لا وجود، في الحالين، لشيء يدعى ب(الخلق الخالص) الذي هو خرافة يروجها الكسل والأمراض النفسية، لأن (الخلق) شأن إلهي يقصر عنه جميع البشر.

- عمّان


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة