Culture Magazine Monday  24/03/2008 G Issue 240
فضاءات
الأثنين 16 ,ربيع الاول 1429   العدد  240
 
ما بعد فوضى التنبؤ
سهام القحطاني

 

 

في زمن تحول المجتمعات يختلط التمييز بين ماهيات الأشياء، فتذوب الفواصل الحاجزة للأضداد ويتسع الشاسع مُفسحاً لفوضى عارمة لا تملك لها ضماناً مؤكداً بأنها خلاّقة سابقة للنبوءة، وفي المقابل لا تستطيع الجزم بأنها مدّمرة تمهيداً للفناء. فالحيرة طبيعة ملازمة للفوضى، أقصد لقيمة الفوضى، باعتبار الفوضى حالة تحتمل النسبية. والنسبية غالباً قرينة لإلغاء قيم الأشياء، وهو ما يعني أنك ستُلزم بالدخول في صراع من أجل إثبات النظام القيمي لمنجَز الفوضى، صراع أولى جدلياته، كيف يخرج الحي من الميت؟.

وهكذا سنجد أنفسنا كمقوّمِين أمام ثلاثة اعتبارات، اعتبار المسوغ، واعتبار المحتوى واعتبار الإطار. اعتبارات قد يختلف المقوّمِون في أسمائها، لكنها ثابتة كمعايير لتقويم منجَز ما بعد فوضى التنبؤ. لكن أيضاً للأسماء تأثيرها في حركة التقويم، فاللغة سلطة تملك قدرة صناعة أقنعة الزيف والخداع، مما يجعل مؤثرات التحول غير مضبوطة، وهو ما يعني زيادة عبء على كاهل النسبية وزيادة إغراق الصورة في عمق الغموض، وكأن الغموض قدر الفوضى، وذلك أمر يفرض علينا أن نتعامل مع النماذج وفق مواصفات المحتمل. ولا شك أن ذلك يزيد عدد منافذ الرؤية، زيادة لا تخلو من خطر تطرف التأويل والتجديف بعيداً عن نقاط الضوء، فتسقط في متاهات بلا مخارج، ثم تفقد موضوعية الحكم. وهذا لا يعني أن لليقين أفضلية على المحتمل، فلكل منهما خطره، النص المفتوح والنص المغلق، الوصاية والعصمة.

حيرة قد يحسبها البعض مسئولية منهج التأويل والاستقراء الباطني للحدث، الذي إن لم تحذر من الإسراف في استخدامه يوقعك في فوضى أخرى، لتجد نفسك أمام فوضى الحدث وفوضى تخيل التأويل. وهو أمر قلّما يستطيع القارئ أن يحمي نفسه منه، أقصد تخيل التأويل.

فالتخيل شهوة جامحة تكسب القارئ أنانية امتلاك النص، مما يحول الحدث العام إلى ملكية خاصة به، فيمارس من حيث لا يعلم إسقاطاته ملوياً عنق الحدث ليستجيب لرؤيته.

ومع أن القارئ يملك حق تأويل النص -المنجز لكنه يظل حقاً غير مكتسب له.

وهذا لا يعني أن يتخلى القارئ عن خياله التأويلي، بشرط تطابق نتائج التأويل مع ظرفيات الحدث ومنجزه. وأظنه ضابط معقول لضمان موضوعية التأويل، وغيابه سيؤدي إلى فوضى التأويل. وهناك أمر آخر لا ينفصل عن محيط فوضى التأويل وهو فوضى تقييم المنجز الثوري، بداية من مفهوم الثورة ومعاييرها، وعلاقة الشبه بين الثورة والنبوءة، ومسئولية العقل الجمعي نحوهما. وإن كنت أعتبر أن الثورة تشبه النبوءة ولا تطابقها، لأنها تهدف إلى تغير وتغيير وإنتاج دستور.

لكن فقدان الثورة لخاصية العصمة يفرقها عن قدسية النبوءة، وإن كان مصطلح القدسية بمعنى النبوءة في حدّ ذاته إشكالية ليس في مفهومه الروحي، بل في التحوّل إلى ما هو قدسي، أقصد ماهية معايير التحول إلى قدسي، ومستوى ونوعية القيمة المشروطة للمنجَز لتحويله إلى قدسي وتحويل مُنّجِزه إلى رمز؟.

إضافة إلى أن مصطلح القدسي في المفهوم الفكري الحديث يكاد يتلاشى كخصوصية دينية، لكنه لا يفقد صفته كرمز. وخصائص ذلك الرمز (التجديد والتغيير والكمال والمطلق)، والتي سُحبت من الخصوصية الدينية لتُضاف إلى الأحداث التاريخية الكبرى للمجتمعات التي قادت ثورة التغير والتغيير. وهذا ما جعلني أزعم أن الثورة تشبه النبوءة ولا تطابقها. أو إذا أردت أن تقول أن الثورات تتحول إلى نبوءات فلك ذلك، وإن كنت لا أنكره وإن اختلف مبرر تأيدي عن غيري.

لكن عليك أن تتنبه إلى أن الثورات إذا تحولت إلى نبوءات دخلت قفص (العقدة)، لأنك ستحيطها بالعصمة وتلغي بشريتها، مما ستجد نفسك نهاية المطاف أمام نص مغلق، وبذلك تتحول الثورة إلى تمثال.

كما أن ضبط معايير التحول إلى ما هو قدسي أمر يكتنفه الغموض، ليظل الواضح لنا من تلك المعايير بل هو الواضح الوحيد، أو ما نستطيع أن نستند إليه في منهجنا التأويلي ونطمئن إليه كفرض كفاية يسدّ الحاجة ولا يُغني، هو الجانب الدافع لذلك التحول، والمرتبط بموقف العقل الجمعي للمجتمعات نحو مستوى تقييم أحداثها التاريخية الكبرى بما فيها من ثورات قادت التغيير والتغير ورموزها التاريخيين، تقييم يدخلها دائرة القدسي، مما يوسع دائرة ما هو قدسي وإحاطته بخاصية العصمة متجاوزاً الخصوصية الدينية بالإضافة وليس الإلغاء، وتستطيع أن تقول هو فرض مشاركة المنجَز الثوري للمقدس، وأنسنة المقدس. ومع أننا بدأنا نتحرر من الإشكاليات المتعلقة بالخصوصية الدينية، إلا أننا وقعنا في شرك خصوصيات أُخر مختلفة منها ما يعتمد على مرجع ديني أو تاريخي أو سياسي أو فكري. لا أعني بذلك الاستخفاف بقيمة الإيديولوجية كموجِه لقارئ النص، بل ضررها كمسوغ لغياب موضوعية الرؤية. يعني أن الاعتماد على مرجع معرفي بلا سقف ضمان موضوعي لقارئ المنجز الثوري.

ولكن لماذا يتحول المنجز الثوري إلى نص مقدس بمعنى نبوءة في العقل الجمعي؟.

*****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMSتبدأ برقم الكاتبة«5703» ثم أرسلها إلى الكود 82244

(من مقدمة دراسة للكاتبة) - جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة