Culture Magazine Monday  24/03/2008 G Issue 240
قراءات
الأثنين 16 ,ربيع الاول 1429   العدد  240
 
سياحة نقدية في مخمّسة جهنية (3)
رانية الشريف العرضاوي

 

 

ويسوقنا التخميس الى نوع من الاستبصار الممارس على جمال المحبوبة التي اكتفى النص النزاري بقطف شيء منه دونما تفصيل وما ذاك إلا لأن النص المخمس عاش التجربة مرتين، مرة مع نزار ومرة مع د. الجهني، يقول:

في عينك السوداء، في المسك الشذي

في كل شبر من خطاك، ومنفذ

في نشوتي، يا سكرة المتنبذ

في وجهك العربي، في الثغر الذي

ما زال مختزناً شموس بلادي

فكان التجسيد فيه ظاهراً بقوة متناولاً الشعر الأسود ثم العيون السود ثم الرائحة المسكية التي قرنها الشاعر العربي منذ الأزل بالحبيبة فالمسك من الغزال وصورة الحبيبة الأكمل في الغزال دائماً، ثم الخطوات الأنثوية المسكِرة التي قادته إلى ندائها - (يا سَكْرة) ليجعلها السّكر وليس سببه وهذا أقوى أثراً، فصاغ للمتلقي نشوة كالحلم يراقب عبرها تفاصيلاً خاطفةً للعقل كلها تنصب في ذاكرة المدينة بما تحمله من تفاصيل هذه المرأة حتى الثغر، فيكون الوجه العربي هو هوية الحبيبة وهوية المدينة الدمشقية وهوية الأندلس المفقودة التي تبوح بكل هذه النورانية الوالهة في الحب الوطني والحب الأنثوي.

وبعد أن تنقَّل في رسم ملامح الأنثى ينقل المتلقي إلى رسم ملامح الوطن الفقيد، وكما جاء بمكامن الجمال عند الأنثى يأتينا بمكامنها في الأندلس:

في كل غادية بكت وسمائها

في (القيصرية) و(الكهوف) ونايها

في (البائسين) وزهرها (وفنائها)

في طيب (جنات العريف) ومائها

في الفل، في الريحان، في الكباد

يبتدئ بتدرج بهي ينطلق من عذوبة تلك الأصوات التي ترسلها (القيصرية) مدرسة الموسيقى الأندلسية والسوق الذي تسمَّى باسمها فيغدو اللحن مزيجاً أسطورياً من الأوتار والأصوات الشعبية التي يصدرها الباعة والمشترون، ثم يأخذنا إلى حيث العمق والسكون والجمال الصامت في (الكهوف) المنتشرة في الأندلس بين غرناطة وقرطبة وبما تحمله من نقوش الغجر وعاداتهم ورقصهم وسكناهم ودخول العرب إلى الأندلس وفتحها تحت جنح الصمت الخالد في تلك المحميات التي عدتها حكومة إسبانيا الآن من الآثار المحمية والصروح الطبيعية الممتلئة بالطيور النادرة، وبذلك يستحضر صوت الناي الذي يملأ فراغ الصمت بين جنباتها وبما يحمله من نغم حزين يمهد لحضور (البائسين) ذلك الحي الأندلسي الذي شهد نهاية الحكم الإسلامي بغرناطة يوم كان من آخر معاقل العرب ومنه خرج الشاعر لوركا الإسباني الذي أحب العرب وجمال حضارتهم في شعره، وكان الحي ببناياته البيضاء مشرفاً على البناء العظيم لقصر الحمراء بغرناطة - مكان اللقاء الأول في النص - ثم يعيد المتلقي إلى دوحته الأندلسية (زهرها)، فغرناطة مشهورة بالزهر الأبيض ومائه بل فيها أسرة بيني زهر العظيمة التي خرَّجت العلماء والأدباء والتجار، فيدل بذلك على زهر النبات وزهر الحياة بالناس، ثم الفناء الذي تحلى به قصر الحمراء بقاعة السباع العجيبة! وهنا ستأتينا اللمحة النزارية الخاطفة بذكر (جنات العريف) التي امتلأت بها حدائق الحمراء وما فيها من فل وريحان وغير ذلك لتختم هذه الجولة التنقلية الحالمة.

ويعد كل هذا التطواف في غرناطة وجمالها يكاد المتلقي يشتم عبق تلك الأرض وتتعلق الأحلام بها من جديد وبهذا يكون النص قد نجح في حمله إلى عالمه الماضي في الزمن الحاضر، في الذات وجعله بدوره يمارس عشقه معه بل ويشاركه في قوله:

تسبي القلوب إذا أمالت عطفها

سبحان من سوى وأمرض طرفها

وألان خصريها وأثقل ردفها

سارت معي.. والشعر يلهث خلفها

كسنابل تركت بغير حصاد

ولأن النص بكل تخابث يكمل لعبته فينقلنا إلى الأنثى من جديد فيجعل جسدها هنا خارطة الحب بعد أن كان ينقّلنا في خارطة البلاد ومكامن الجمال فيها، فيأتي بسمات العربية القحّة ليذكِّر بعنتريته الأولى التي لا يتنازل عنها حتى لو كان في الأندلس، بل تحلو له ممارستها أكثر، وهنا تأتي الصلوات بالتوحيد والتمجيد بين يدي المحبوبة أم بين يدي البلاد؟ لا تدري! فالنص يريدك ألا تدري، أن تضيع بين أنثاه ومدينته لتذوب في حيهما معاً كما ذاب هو، ولكن الضعف والعجز يصحو من جديد:

بُعث الهوى يدعو إلى توحيدها

ويردد الألحان في تمجيدها

فالناس بين شقيها وسعيدها

يتألق القرط الطويل بجيدها

مثل الشموع بليلة الميلاد

لما رأت ضعفي وقلة حيلتي

وتلفتي بين الجموع وحيرتي

قالت تعال أريك حسن مدينتي

ومشيت مثل الطفل خلف دليلتي

وورائي التاريخ.. كوم رماد

إنه ضعف الحاضر والعجز عن استرداد الماضي وهنا تتحول دفة النص صراحة إلى الأنثى لتسير خطوات العنتري بعد (كوم رماد) خلفه وراءه ونتساءل: هل هو اختراق الذات وذهاب شبابها أم احتراق التاريخ العريق بخروج العرب من الأندلس؟ أم الاثنين معاً؟ اختر أنت أيها القارئ!! وهنا تحضر الحرب التي تطحن النص وتمارس على الذات قوتها ورهبتها عبر خطوات خيل وفوارس رسمتها رسومات ونقوشات وهو ما يوحي بوجود تناص بين هذه المخمسة وبين ما كان من سينية البحتري عندما استنطق النقوشات في إيوان كسري:

ومشيت والخطوات أقبض بعضها

وكأنني بالخيل أسمع ركضها

وفوارس نهضت لتحمي أرضها

الزخرفات أكاد أسمع نبضها

والزركشات على السقوف تنادي

بينا أكفر في قديم عهودنا

وجدودنا أيم خفق بنودها

ومدينة الزهراء خير شهودنا

قالت: هنا الحمراء.. زهو جدودنا

فأقرأ على جدرانها أمجادي

وهو ما يؤيد امتداد النصِّ إلى عمق التاريخ والعراقة العربية الأصيلة، ويستمر الغرق في الندب على ماضٍ خفت بريقه عبر إحداث المقارنة المحمودة بين أصالته ومشاعله وبين (الغرب الزائف) فتكون الجراح مشاركة بين السمراء وبين الذات لتغدو الوشيجة بينهما الماضي وبلاده وبذلك تعقد الذات مع الحبيبة رابطاً قدسياً هو رابط الوطن والمجد والجرح النازف!

هذا النزف أمام طلل الرسومات والأمجاد استدعى البكاء كعادة الشاعر العربي لكنه بكاء عقب إطراق وتأمل وتفكير وكفى به بكاء! إنه كما قال اهتياج العقل واهتياج الروح فكان أن: (أجهش) وكأن الأنفاس تتقطع لأنها وقفت على هذه الأطلال الفنية لتحكي القصة المسكوت عنها، وبذا تتحول كل هذه المكاشفة الشعرية مع التاريخ الى سر من أسرار النص الذي لم يبح إلا بنزر منه، وهو ما يخرجه إلى اختزال القصة في لازمة ذكورية للفتح الأندلسي، لازمة القائد: (طارق بن زياد)، ليخرج النص من سرية الأنثى وحكايتها المسكوت عنها إلى عَلَمية الذّكر وشهرة القائد ومعرفة الذات الذكورية بالحقيقة التاريخية، وبالتالي تتحول قصتها الأنثوية إلى نوع من الهذيان ومكاشفته هي الحقيقة القابعة في رمز القيادة، وهنا يكشف النص عن جموح الذات في ختمه بذكوريته رغم أن الأنثى كانت فتيل استدعاء هذه الذكورية عبر عشرات الأبيات:

لكأنها نسيت زماناً وارفاً

ومشاعلاً تذر النجوم كواسفا

أيام كان الغرب مجداً زائفاً

أمجادها!! ومسحت جرحاً نازفا

ومسحت جرحاً ثانياً بفؤادي

أطرقت.. أجهش بالبكاء وما بكت

ورفعت طرفي نحو عين قد حكت

لي قصة عنها مؤرخها سكت

يا ليت وارثتي الجميلة أدركت

أن الذين عنتهم أجدادي

فوجمت.. أسرح بالرؤى وتركتها

تهذي كما شاءت وما قاطعتها

لكنني من بعد ما صافحتها

عانقت فيها عندما ودعتها

رجلاً يُسمَّى (طارق بن زياد)

وبعد.. فإنه الشعر، وعالمه عالم خاصٌ، يطوف بنا في معانٍ لا نهائية لا نجزم بفنائها أو انتهائها بل في كل مرة نقرأ لنفهم شيئاً جديداً وندخل عالماً سحرياً ينتظر منا اكتناهُ أسراره الخفيّة؛

تحياتي إليكم وللجمال.

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة