Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
فضاءات
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 
هل استفدنا ثقافياً من المثقف العربي الوافد؟
سهام القحطاني

 

 

المتأمل للثقافة السعودية سيجد أنها بطبيعتها ثقافة غير قابلة للشراكة مع ثقافات عربية أخرى، أي أنها تفتقد ميّزة المرونة على مستوى تجربة التبادل والخبرة مع الثقافة الغيرية، ولعل سبب ذلك طبيعة الفكر المحافظ المهيمن عليها والذي منحها حصانة ضد الاختلاط بالثقافة الغيرية. لكن يجب ألا يفهم من كلمة حصانة المقصد العام منها (الامتياز)، إنما الإحاطة بما يتوهم أنه محتوى امتياز، وهو ما يعني أننا نضطر أحياناً للصراع حول قيمة غير ثابتة أو غير مؤكدة والدفاع عنها باعتبارها مُسلمة، وخطورة هكذا موقف أنه يؤدي إلى انفصالك عن منطق تطور الأشياء.

نعم إن وجودك في ذاته برهان، والبرهان حقيقة لكنه لا يتضمن بالضرورة الصدق، فالصفة ليست تابعاً مطابقاً للبرهان على المطلق، ولذلك تصبح كل الأشياء بما فيها القيم افتراضات مفتوحة، إنها سمة روح التطور، السمة التي تدفع المجتمعات إلى تقدير الشراكة كتجربة وخبرة قابلتين للتداول والتبادل.

ويتمأزق الفكر التطوري عندما تعترض التجربة الثقافية للجماعة على الدخول في منظومة الشراكة مع الثقافة الغيرية. وتخلف التجربة الثقافية عن التجربة الاجتماعية، هذا التباطؤ في المتابعة والمواكبة فصل بين علاقات التأثر والتأثير في مصادرها.

وعلى مستوى المجتمع السعودي، لا شك أن لطبيعة المجتمع السعودي الاجتماعية والدينية والسياسية دوراً في التمحور حول الذات، لتتحول تلك الخصوصية الناتجة عن التمحور فيما بعد إلى عقدة (نرجسية)، وعندها تعتقد أنك تملك الأفضل وأنك مع ذاتك تحقق التكامل والكمال، حينها تمارس إقصاء الثقافة الغيرية، ومن يمثلها، لاعتبار الكفاءة والكفاية الخاصيتين، وهو ما يعني ممارسة معقّلنّة لفعل (الطرد). إضافة إلى أزمة أخرى أصبحنا نعيشها، وهي أن المثقف السعودي ليس هو الممثل الرسمي للثقافة السعودية ولا للخطاب الثقافي، إذ أصبح كل مثقف بمفرده تجربة وخطاباً ثقافيين مستقلين عن التجربة الرئيسة، وهي أزمة تأريخ الثقافة السعودية وتقنين خصائصها الفنية والموضوعية.

وبذلك أصبحت هناك ثلاثة مستويات، التجربة الثقافية الرسمية، وتجربة المثقف الخاصة، والتجربة الاجتماعية الشعبية، وكل مستوى يسير منحى مختلفاً عن غيره وأحياناً يتضاد معه، مما يعيق كل منها أن يكون مكملاً للآخر، ويعيق سيطرة مصدر التأثير.

هذه الطبيعة بدورها لم تمنح الفرصة ليؤثر المثقف العربي الوافد في الثقافة السعودية أو يضيف لها. وهذا لا يعني أنني أُبرئ المثقف العربي الوافد من سلبيته على مستوى التأثر والتأثير بينه وبين الثقافة السعودية، فهناك أسباب أخرى تتعلق بطبيعة المثقف الوافد، ولو حاول تجاوز مسوغاته الخاصة لاستطاع أن يؤثر ويضيف - أظن ذلك.

لكن لم يكن لديه أي استعداد للتأثير في الثقافة السعودية أو الإضافة إليها، لعدم رغبته في الدخول في الصراع مع ما يعتبره المجتمع مسلمات غير قابلة للاستقبال والتغيير، صراع مع تقاليد تلك المحافظة، مما جعله يعيش في جيتو في المجتمع السعودي يفصله بين المثقفين والثقافة السعودية. إن الإحساس بالغربة عادة ما يمنعك من الاندماج مع الآخر، وبالتالي التأثير والإنجاز، إنه إحساس يضخم داخلك التوجس من المضيِف، وحيناً يدفعك إلى كراهيته لأنك تظن أنه سبب غربتك، لعله تعويض يُمَارس للتخفيف من ألم غربة الذات، والانتقام من غربة المكان.

وحيناً يكون الإحساس بالغربة نحو المكان وأصحابه وهماً، يتحكم فيه منطق الشكلانية قبل أي منطق كما حدث مع الدكتور عبدالوهاب المسيري عندما كان أستاذاً في السعودية، من خلال الحكاية التي أوردها في إحدى كتبه، عندما قرر أن يندمج مع طلابه السعوديين ففكر في أن يلبس الثوب السعودي بدلاً من لبسه، لظنه أن لبس الثوب السعودي سيُزيل حاجز الضيف والمضيِف، لكن صديقه نصحه بعدم لبس الثوب السعودي، لأن البعض قد يعدّه من قبيل النفاق. فهل معنى التأثر والتأثير بهذه السطحية التي نختزنها في الشكل فقط؟ وهل قوة التأثير تتبع المكان لا من قوة فكر وثقافة الأشخاص؟ ولماذا مرَّ البروفسور عبدالوهاب المسيري على الثقافة السعودية مرور الكرام دون أن يؤثر فيها أو يضيف إليها؟

هل لطبيعة العلم الذي تميّز به الدكتور المسيري والبعيد عن اهتمام الثقافة السعودية، أم لطبيعة الإقصاء الممارس من قبل الثقافة السعودية لكل ثقافة مختلفة عنها؟

كما أن إيمان المثقف الوافد المبطن بأن المجتمع السعودي مجتمع لا يملك ثقافة بالمفهوم الفكري كالثقافة المصرية أو السورية أو اللبنانية، وأن ثقافة المجتمع هي ثقافة طفريّة لمجتمع لا يحمل أي مرجعيات حضارية أو فكرية، وأن ثقافته زائفة وسطحية وشكلانية نتيجة تحول المجتمع إلى مجتمع نفطي، هذه النظرة الدونية من قبل العمالة الثقافية في السعودية هي التي وقفت أمام تأثير المثقف الوافد في الثقافة السعودية.

فالمثقف العربي كان (يترفع) عن الاندماج مع الثقافة السعودية، هذه الفوقية كانت حاجز إعاقة لتأثيره على الثقافة السعودية أو الإضافة لها، لكن ذلك لم يمنع المثقف العربي من تسجيل تجربته الثقافية التي عاشها في المجتمع السعودي وتشريح المجتمع تشريحاً لم يسلم من المبالغات والمغالطات في كثير من الأحيان، وهو ما دفعني للقول السابق من عقدة المثقف الوافد من الغربة وانتقامه من مكان الغربة عندما يركز على عيوبها وعوراتها لتعويض ألم الذات (فالجائع يحلل سرقة الخبز)!

في حين أن الحقبة التي دخل فيها المثقف العربي إلى السعودية كانت من أخصب الحقب التي تم فيها الاندماج بين المثقف السعودي والثقافة المستوردة عبر المدارس الشعرية والفنون النثرية، وبعدها النظريات النقدية.

فلماذا أثّرت الثقافة المستورة عبر النموذج الأدبي في الثقافة السعودية، ولم يؤثر المثقف الوافد؟

لأننا بطبيعة الحال تأثرنا بالمُنجَز أسرع من تأثرنا بما هو غيبي، وتأثرنا بالتجربة أسرع من تأثرنا بالفرد ما دام مشروعاً كامناً، لكن عندما يتحول إلى مشروع متحرك وظاهر فالأمر مختلف، لأنه يتحول حينها إلى منجَز، وتأثرنا بالمشروع الجماعي أسرع من تأثرنا المشروع الفردي، وتأثرنا بالصوت كرمز للموجود أسرع من تأثرنا بالمقروء.

وعندما أقول أن المثقف الوافد لم يستطع التأثير في الثقافة السعودية أو الإضافة إليها، فأنا لا أقصد بالتأثير عدم الاشتراك في المشهد الثقافي السعودي، فهناك الكثير من المثقفين العرب الذين عاشوا في المملكة وعملوا بها من الجيل الثالث، من اشترك في المشهد الثقافي السعودي، لكن أن تشترك لا يعني أنك قادر على التأثير والإضافة، وخاصة أننا لا نستطيع أن نغفل أهمية النفعية المادية مقابل ذلك الاشتراك، مما يقلل من قيمة تأثير الاشتراك أو جدية نيته في الإضافة، ومجاملته للخطاب الثقافي التقليدي.

ولعل الصراع مع الحداثة كشف سلبية الموقف الثقافي للمثقف الوافد الذي وقف مشاهداً لذلك الصراع باعتباره أزمة ثقافية محلية، وباعتبار آخر هو مجاملة أو خوف من التيار المهيمن على الثقافة السعودية بل وعلى القنوات الثقافية كالجامعات والمدارس والصحف، وهي مصادر رزق لأولئك المثقفين غالباً. وبناء على نظرية «عض ثقافتي ولا تعض خبزي»، مال جمعيهم للمسالمة نحو هذا الأمر والسلبية، لكن كان بإمكانهم التصرف بحيث يقدمون موقفاً إيجابياً في هذا الصراع يثري الحركة، ولو تدخل المثقف الوافد العربي لكان من الجائز أن تتغير نتيجة المعركة.

إضافة إلى أن العمالة الثقافية وخاصة أساتذة الجامعات كان أغلبهم من التيار المحافظ، ومن لم يكن منه اختار السلامة بجوار الصمت والسلبية، ولا يختلف الأمر مع الصحفيين.

إضافة إلى أن الكثير من الدراسات النقدية التي قُدمت في تأريخ الأدب السعودي وتحليله فنياً على يد بعض المثقفين العرب غلبت عليها المجاملة، مما أضر بمصداقية تلك الدراسات. ولا أبالغ إن قلت إننا أصبحنا لا نثق برأي أي مثقف عربي وافد في التجربة الثقافية السعودية، نتيجة جرنا إلى غيبوبة المجاملة التي تغلب على دراساتهم النقدية والأدبية. ولعل من يحضر الملتقيات الثقافية ويستمع إلى الأوراق المقدمة من بعض المثقفين العرب سيتأكد أن بعضاً من المثقفين العرب الوافدين ما هم سوى مجموعة من المرتزقة، وهناك قلة تُستثنى نقدر مصداقيتهم بلا شك.

يمكن تقسيم العمالة الثقافية العربية إلى ثلاثة أجيال، بدأ من الستينات الميلادية إلى بداية أو منتصف التسعينات، لكن بعد منتصف التسعينات تقلص عدد العمالة الثقافية لتوسع الكوادر المحلية التي حلَّت محل تلك العمالة، ولم نشعر بذلك التقلص لأننا لم نشعر منذ البدء بوجوده أي تأثيره في زمن كثرته، في حين كان ذلك العدد يستطيع التأثير عبر موقعهم في الجامعات أساتذة ومشرفين على الدراسات العليا، مما ينعكس على المنجَز الثقافي فيما بعد، هذا هو مقصدي تماماً من علاقة التأثر والتأثير.

وقد يندهش البعض عندما يعرف أن العمالة الحرفية العربية الوافدة أثرت في التاريخ الاجتماعي السعودي وأضافت أكثر من العمالة الثقافية، ولعل سبب ذلك يعود إلى قدرة العمالة المهنية في إيجاد قيم نجاح علاقة التأثر والتأثير وآلياتها بين الأفراد، فالإحساس بالتكافؤ بين الطرفين يُنجح علاقة التأثر والتأثير، الإيمان بقيمة الاندماج وتجاوز عقدة الغربة بين الطرفين يُنجح علاقة التأثر والتأثير، ممارسة سلوكيات التعايش وعفويتها بين الطرفين أيضاً ينجح علاقة التأثر والتأثير، مصداقية تلك العمالة ورغبتها في الإضافة والتأثير، هي التي جعلتها تنجح في تلك علاقة، مع الاعتراف أن المجال الاجتماعي لا يحظى بكمية المحظورات التي تحيط بالمجال الثقافي مما يجعل التأثير فيه والإضافة أيسر ومتاحة، إضافة إلى أن المجال الاجتماعي مرّن بطبيعته في الاستقبال والتغيير ما لم يقترب من المحظور، كما أن اعتقاد المجتمع نحو المجال الاجتماعي يختلف عن المجال الثقافي، اختلاف يرتبط بنقصان المجال الاجتماعي الذي يحتاج إلى اكتمال، وبكمال المجال الثقافي الذي لا يحتاج إلى اكتمال، وبأن ثانيهما هو مركز الهوية والخصوصية.

ونجاح العمالة الحرفية العربية الوافدة في التأثير على التجربة الاجتماعية والسعودية، مقابل فشل العمالة الثقافية، يعود إلى توافر ذكاء التعايش، وهو ما افتقدته العمالة الثقافية.

لا يعني حديثي أي إهانة للعمالة الثقافية، فهم أساتذتنا ولا ننكر جميلهم وعطاءاتهم، لكنها عطاءات مقابل منفعة مادية ولولا تلك المنفعة لما قدموا لنا شيئاً، وبذلك نحن نتساوى (لا غالب ولا مغلوب) وليست لسواد عيوننا السعودية، وعندما تعلق الأمر بسواد عيوننا لم يقدموا أي عطاء.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333»ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة