Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
فضاءات
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 

وجوه وزوايا
ياعبد العزيز مازالت صالحة في الباحة
أحمد الدويحي

 

 

ذات صباح صيفي، كان على مقربة البصر، ملء السمع، سيارة كبيرة صفراء بسكين أمامية كبيرة، تزيل الصخور والتراب، وكل شيء أمامها.. جاء الناس وبيدهم دفاتر، سألوا عن كبير القرية، واصطحبوه إلى بيت (صالحة بنت أحمد). نظر الرجال إليها، وقال بصوته الهادي الثقيل: (اسمعي يا بنت الرجال، هذا أمر بشق الخط من فوق كل بيت، وكل مزرعة، في الطريق).

أمسكت (صالحة) على جانبي رأسها، وقالت:

- (يعني.. يابو فلان.. بيهدّون بيتي، وين أروح؟).

- (والله، أنا، لا بيدي، ولا بأيدك).

- (يا لطيفنا.. ويش أسوي بحال؟).

- (يقولون، بيعطونك تعويض).

- (.. أنا، ما أطلع من بيتي، لو أعطوني.. مال الدنيا)

جاهد الرجال، ليأخذ منها الرضى، ويقنعها بأن الأمر لا خيار فيه، لكنها كانت تحتد في القول، وتضع يديها على رأسها وتردد (هوه.. يا قطع نصيبي). ثم تلفتت حولها، وقعدت كالصخرة القاسية على عتبة البيت، وقالت:

- (أسمعوا.. تعالوا، اقلعوا بيتي، هدوه فوقي أنا ماني طالعة منه).

لم يتحاور معها أحد، بل نظروها قليلاً، ومضوا. أما الرجل الكبير فوقف صامتاً، ثم استدار، وعيناه نحو الأفق. بعد يوم كان التراكتور الأصفر الكبير، يزحلق في الأذن أزيز سيرة المجنزر القوي، ويتأهب لهدم البيت.

كانت (صالحة بنت أحمد)، تقعد على عتبة الباب تمسح عينيها، وتحوش ابنها الذي انفلت من يدها، ليقذف السكين الكبيرة بالحجارة، فتصيح به أخته (سعيدة) من خلف أمها.. كان الناس يقفون دون كلام في وجهة الساحة، جاءت جارتها فتحدثت معها بكلام طويل، وبعد قليل لمت أواني قليلة من الداخل، وصرة كبيرة، ومهدا بان عليه عدم الاستعمال، وأشياء أخرى، وفاض بها الخرج الذي شهدته على ظهر الحمارة، التي اقتادتها وجاءت إلى (صالحة بنت أحمد) وعيالها، لتسحبها من يدها.

كانت الجارة تجذبها بكل قوة يدها وتقول (هيا قومي يا مخلوقة، ما حد يقدر يعاندهم) وكانت بين لحظة وأخرى تمد كم يدها لتمسح قطر عينها الحامضي، وتداريه لكيلا تراه عندما قعدت في بيت جارتها، ولثامتها البيضاء تغمر نصف وجهها السفلي، وتغطي كتفيها وصدرها، لم تتناول فنجان القهوة.. بل طلبت ماء وشربته.. بقيت صامتة لا تتكلم، وبقي ذلك الصوت الذي يرج الأسماع، كأنما يهدم الضلوع.. صالحة بطلة رواية تحمل اسمها وصفاتها، إنسانة تجلت في شمائلها كل صفات النبل، ونبذت نواميس طارئة تغيرت بتغير المصالح، ليتغير الرجال ضعاف النفوس والمستلبون، وتبقى صالحة تياراً عاصفاً في وجه كل ما يمس إرثها، ومصالحها بقوة لم يقو الرجال عليها..

صالحة الآتية من نسيج مجتمعي، له قيمه وطقوسه ونواميسه، فالأرض التي يعنيها المبدع - الراحل عبد العزيز مشرى، تشكل للإنسان الجنوبي شرفه وكرامته، فالإهانة واحدة تطال الإنسان الأرض، وتبقى وصمة متى ما اعتدي عليها، وتحفظ الذاكرة الشعبية أسماء الذين ذهبوا فداء للأرض، ويتسمى المكان بأسمائهم تخليداً لهم، سواء كان أولئك ذهبوا فداء في مكان عام كحمى القبائل، ينذر للرعي وأشجار وأحجار، تؤخذ لبناء المساكن والمزارع والقبور، أو كانت أملاك جّدية متوارثة جيلاً بعد جيل، ويا كثر الأماكن الأثرية التي مسح وجه التغيير معالمها، لن أعني هنا لئلا أفهم خطأ أني من دعاة القبلية، وسيادة بعض قوانينها البائدة، فالتحولات ومعايشة الزمن ولغة العصر، يفرض التخلي عن بعض بل كثير من النظم المعطلة. وما أنا ضده هو الظلم والفساد والتعديات، تذكرت هذا النص المعبر عن واقع مزرٍ ما زال ممتداً، يتكرر في المنطقة الجنوبية وما زلنا نرى صور (الدركتورات)، هكذا يسميها المشري -رحمه الله- تتصدر صورها واجهة الصحف وتواجهها أكثر من صالحة..

هذه الصورة الفلكلورية التي رسمها المبدع - عبد العزيز مشري لواقع الباحة في رواية كاملة، هي تلك الصورة التي ينتزعها الفنان من الواقع بلا رتوش، ويضفي عليها من حسه ورؤيته، وهو في كل الأحوال غير معني وغير قادر على فعل شيء، فلا يستطع إلا التعبير من خلال شخوصه ولغة الواقع والصدق. وبطبيعة الحال فإن لغة الكلام المحكي والشفوي واليومي، كانت هي اللغة التي دون بها نصوصه وتوسمتها بالواقعية. وأيضاً بلا شك فعبد العزيز مشري حينما يوجه هذا النقد، الشديد الوطأة لعالم بعض شخوص رواية صالحة، ويصفهم بالمتخاذلين والمنتفعين، فإنما يعزف على وتر مفصلي في حياة مجتمع، يشهد كل يوم مجازر تعني بانتهاك الأرض ويرمز ب(صالحة)، وصالحة الإنسان والأرض والشجر والحجر، وينطلق من ثقافة مجتمع غزته ثقافة الأسمنت وحولته إلى كائن آخر.. وقيمة الأدب والإبداع الصادق، التقاط تلك الومضات الخاطفة في حياة الناس. فكلنا نؤمن بالتنمية التي تأتي من ثقافة المجتمع، فتكديس الناس في بيوت أسمنت، يعني القضاء على الأرض التي تمتص نبضهم وعرقهم، يعني قتل حياة وفراقاً للأرض. والأرض في جبال السروات محدودة، فكيف إذا قُضي على المساحات الصغيرة الصالحة للزراعة، ببناء بيوت الأسمنت المنتشرة في الحقول. وقد رمز عبد العزيز لكل هذه النماذج وتأملها، نماذج فقيه القرية ومعلمها ورجل الدولة ومواطنها، نماذج نجدها يومياً في حياتنا، إنه يحيل الواقع إلى صورة تجعلنا ننفعل بها. صالحة شخصية أرمله مات زوجها وما زال (أحمد) في بطنها لم يخرج إلى الحياة، وقد سبقته إلى الحياة أخته (سعيدة). وتأملوا رمزية الأسماء ودلالاتها. واجهت الطامعين في ذاتها ومحنة الحياة وموت زوجها. لكنها الآن تواجه ما هو أخطر وما لا تحتمله ويهدد باقتلاعها.. إن أبشع ما يتأمله الفنان، حينما يجد أن صور الفساد والانتهازية تتجسد في رموز المجتمع، فالدركتر بسكينه الحادة جبروت، يكفي سماع صوته الذي يرج الأسماع ويهدم الضلوع، وشخوص الرواية رموز فساد لسرقة الأرض وانتهاك الحقوق. فالمرآة الجنوبية لها خصوصية في الإرث، وليس غريباً أن تتداول مفردة (حق أبي). وخلقت هذه الخصوصية إشكالية مجتمعية متراكمة. وهنا نفتح نافذة ضوء لصورة عبد العزيز الفلكلورية، ولصوت (صالحة) الممزوجة خصوصيتها بالأرض، تواجه رموز الفساد الجدد، يتشكلون في عباءة البيروقراطية والمصالح من وجهاء مجتمع وتجار وموظفين في قطاعات حكومية، يأتي الدركتر كصورة واضحة لنهاية الصورة والمعاناة.

واقع ليس بغريب على العين، وما جعل الصورة تتداعى، وتحضر (صالحة) مجللة بالبياض وروح عبد العزيز المبدعة. قراءة دراسة تتأمل وتحلل أسباب التعديات على الأرضي في المملكة، وتساءل بلدياتها الذين لن يكونوا وحدهم، وقد بدأت بالمنطقة الجنوبية فتكشفت وجوه كثيرة تحتاج إلى أكثر من صالحة، وما خفي أعظم.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5212» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة