Culture Magazine Monday  28/01/2008 G Issue 231
فضاءات
الأثنين 20 ,محرم 1429   العدد  231
 

واعظ الحداثة الأكثر أناقة وحذراً .. مدينة خاتمي
محمد عبدالله الهويمل

 

 

عند الخوض في أطروحات د. محمد خاتمي وعرضها أو تناولها بالتصنيف والنقد، فإننا بإزاء شبكة غاية في الاضطراب والتعقيد يستمدان مادتهما من جذور فلسفية ومعرفية ذات خصوصية وذات كيمياء تأثيرية استثنائية شكلت مثقفاً وزعيماً تفانى في سبيل التبشير لأفلاطونيات مثالية لم تأخذ مساحتها في التنفيذ على مدى عصور الإنسان.

إن نجاح خاتمي أو فشله في تبييء مشروع فلسفي لا يتخذ دوراً محورياً في تلمس حدود التعقيد القلق الذي يصبغ شخصيته وخطابه، بل وفي خلوته الطبيعية مع ذاته والجغرافيا الحالمة التي يتحرك فيها وهذا لا يشي بالضرورة أنه من حالمي اليقظة، بل هو سيد لحظته وراسم حدودها ومحرك ميكانيكياتها خفيضة الصوت.

(سلطة الفيلسوف)

في مقاربتنا لمشروع كتاب (المجتمع المدني) وإشكالية دورة المرأة والشباب فيه يجدر بنا تفكيك مفاهيم مركزية ذات صلة بأهلية رعاية الفيلسوف لعملية تفجير علاقات سياسية تربط الإنسان بواقعه وتؤسس لنظرية يتبناها د. خاتمي ويوسع خلالها الأفلاطونية على مساحات الاختيار الحديث لمفهوم المجتمع المدني.

والتفكيك ينهض باكراً مع دور الفيلسوف كما ينص أفلاطون على أنه سادن الفضيلة وأن الدولة ذات غاية واحدة وهي تحقيق الفضيلة.

الأزمة هنا في أن تعريف الفضيلة بات متنازعاً ليس بين الثقافات فحسب، بل بدخول أفراد نجحوا في إحداث نقلة مفاهيمية نوعية وخطيرة بشأن الفضيلة وهم الأنبياء وتلاميذهم المبرزون الذين أبدعوا تصدعاً في طبيعة العلاقات والتلقي والتأويل والوصاية على الفضيلة تعريفاً وممارسة وتصنيفاً من شأنه أن يعزز تناقضاً يداريه خاتمي من خلال توسيع دوائر مادية تعبر من خلالها خطاباته دون أن تخلف أثراً يستدعي تساؤلاً في محددات الفضيلة ومن ثم محددات الفيلسوف أو حاضن القضية ذي الأهلية لإدارة الدولة وهذا تصديق حي لما أكده ناشر الكتاب، غير أن خاتمي وهو الأكثر حذراً وأناقة يتخطى بخفة مفردة (الفيلسوف) بكل تبعاتها إلى (المفكر) أو (المثقف) بكل انسيابيتها ما بعد الحداثية والنصف شعبوية لدفع الحدة الطوباوية عن ممكنات نهوض المجتمع المدني على شيء من الممكنات الأفلاطونية. وفي هذا السياق الساخن يطرح السؤال الأكثر إحراجاً للمبشرين بدولة الفيلسوف (ألم تقلل الانشطارات والاستقلالات التي حققها العلم عن الفلسفة -ولاسيما هذا القرن- ألم تقلل من الشأن القيادي للفلسفة على شتّى مجالات التفكير والسؤال والإجابة وأدبيات ما بعد الحداثة التي أطرت تأثير الحداثة (الابنة الشرعية للفلسفة) على مناحي الاختيار الإنساني وأفضت بالإنسان الجديد إلى مزيد من التلقائية مهشمة بذلك الكيان المؤسسي للحداثة وكل وصايات الفلسفة على إنسان ما بعد الحداثة)؟!

إذاً التعاطي الإنساني مع السياسي بوصفه حقلاً جمالياً بات بمنأى عن المؤثر الفلسفي والحداثي وجاء بالإنسان ليحل مكان المؤسسة الفلسفية والحداثية وغيرها من مؤسسات رعاية اختيار العلاقات ولعلي في هذا السياق أستدعي مقولة استشق بها د. خاتمي وهي لأرسطو: (القانون هو صوت الإله) حيث لا يدّعي أحد على أي صعيد كان أنه مترجم أو معبر عن صوت الإله وجاء ثوار ما بعد الحداثة ليؤكدوا هذا ويعززوا من سقوط هكذا علاقات في احتكار القانون لسقوط المؤسسة الفلسفية التي ادّعت لنفسها أنها القناة الوحيدة لتلقي القانون عن صوت الإله. والراصد الثقافي لا ينكر دور فلاسفة كانت لهم محورية مهمة في إحداث انقلاب في بنية اجتماعية كرست لفكر حقوقي، ويأتي في طليعتهم جان جاك روسو في كتابه (العقد الاجتماعي) لكن هذا جاء لحاجة إنسانية ملحة وظرفية خطرة استثنائية بلغ بعدها الإنسان بمجهود علمي أفقاً في الوعي بشأن الحقوق وسنها كقوانين فضلاً عن أن روسو عنون كتابه ب(الاجتماعي) وليس (الثقافي) ليحجم من دور الفلسفي في الانفراد في مطلقية التصنيف الحقوقي.

(المرأة والثورة)

إن مما يؤكد ما ذهبت إليه بصدد الحذر الفاعل والأناقة المفتعلة في أطروحات خاتمي هو ما عالجه في قضية الشباب والمرأة حيث خصص مجمل خطابه لهذه القضية (مقاربات في دور المرأة والشباب) والتي أطرح فيه سؤالاً لا يباشر علة استخدام الشباب بالجمع والمرأة بالمفرد كما هو الدارج في الكتابات ذات الصلة. هل هذا الإفراد تفرد على المحمل الموجب أو السالب ولماذا (المرأة) معبراً عن الشابات.. هل لأن القطاعين النسوي والشبابي معطلان وغير مدمجين على وجه التمام في مشروع التنمية.

إن البسط في إفراد المرأة لغوياً قد يفضي بنا إلى تفكيك خلفيات ثقافية أو لغوية أو ترجمية والمحصلة أن المرأة في النسق الإصلاحي -ولاسيما الليبرالي- تمثل لحظة ضعف التاريخ الإنساني المصطبغ بالعنف والثروة والفحولية على مستويات عدة، حيث حشرها في زاوية العملية التاريخية واستلب منها عضويتها الطبيعية في الجماعة الإنسانية، وقد يكون هذا مبرراً لا واعياً في معاملتها معاملة المفرد أثناء الحديث عن حقوقها.

الدكتور خاتمي الطامح والواعظ الإصلاحي يبدو أكثر حيطة ساعة يعبر الهامش الزجاجي (المرأة) - ولاسيما الإيرانية- وأطرها الضيقة الفضفاضة ومنظومة التكاليف الدينية والاجتماعية التي تحملها خلف التشاور (الحجاب) إلا أن يتفادى التوتر العالق في الربط المباشر بثقافة الثورة الإيرانية وتجيير استكمال بلوغ المرأة حقوقها إلى أهليتها كعضو فاعل في المجتمع الثوري الخادم المطواع لمعطيات الثورة واستمراريتها، ويأتي إقحام الفلسفي في هذا الشأن لمنح المرأة خياراً داخل الخيارات لإضفاء المسحة الفلسفية على الدرس الثوري وانسجامه مع كيفية الإنسان الجديد.

إن وظيفة المرأة عند خاتمي غير واضحة المعالم بوصفها عنصراً قابلاً للدمج الحضاري بل لا يكاد يتجاوز نقاش مهمتها ما طرحه سابقوه من أن حضورها مهم وفاعليتها ضرورية وكل ذي صلة بالكفاءة والعلم والمثابرة. دون أن يكشف خاتمي برنامجاً عملياً له سقوف محددة من شأنها أن ترشح خاتمي موجها متفوقاً في هذا المجال. من حقنا أن نسائل هذه الخلفية الفلسفية الثرة التي يحتملها خاتمي عن ضمور ما قدمه للمرأة.

إن الحالة الثورية فكرياً هي حالة ذات محرض فلسفي تتجاوز الشرط الثوري الذي أملته دروس الثورة الإيرانية.. فأين وإلى متى يحتفظ خاتمي بما قد يتصادم مع الثابت الثوري الإيراني وهو الذي يشاغب بحذر المنطقة المجانية المتسابحة (العادات والتقاليد) في حين أن الثورة باتت في عداد العادات والتقاليد الإيرانية غير أن خاتمي يتراجع بخفة للاحتماء بثوابت الثورة في تماهٍ ماهر مع الممكن الممتنع في فضاء المرأة الإيرانية. ومما يجدر الإلماح له أن المرأة الإيرانية ذات تعددية طبيعية وقابلة للتأثير الثوري وذات رصيد ثقافي متصادم في مكوناته الذي ورثته في عهد الشاه منحها بعداً استقلالياً صوتت به للثورة وللثورة على الثورة فالتعامل مع هذا المزدوج عصي إلا على من ينطوي هو الآخر على مزدوجات غير معلنة وهو محمد خاتمي.

الشباب الإيراني والأسئلة

يتخطى خاتمي المرأة دون أن يفعل جانباً مهماً في قلقها الوجودي والجمالي وهو إمكانية طرحها الأسئلة ساعة تفاعلها مع وجودها وتفاعلنا معها وهل المرأة كتلة من الإجابات المندمجة مع الثورة بوصفها الإجابة الكبيرة لكل أسئلة الإنسان الإيراني.. إذاً ما مغزى إلحاح خاتمي على عقد قران حاد ما بين الشباب والأسئلة. يأتي هذا فقط في المناخات الأكاديمية وتحديداً عند نقاش دور الجامعة والمحاضن العلمية والتربوية ومدى قدرتها على استيعاب حجم الأسئلة وتأمين الإجابة لها.

الباعث الفلسفي القائم على التحريض على مساءلة الثقافة في شتى بناها كان المحرك الأول لدمج الأسئلة بالحالة الشبابية وعلى الأخص الإيرانية إذ الثورية هي القدر الحتمي للشباب الإيراني، وتبقى هذه الأسئلة هي الضامن الوحيد لتصريف الطاقة الثورية في قنواتها المدنية، ولا يتأتى هذا دون توسيع نطاق الحوار المدني كونه مداراً قريباً من النواة الكبرى (حوار الحضارات) الذي تبناه د. خاتمي وعقد له اللقاءات والندوات والرحلات. إن مدينة خاتمي كما يبسط في كتابه هي مدينة الشباب حيث الأسئلة ذات الإجابة المفتوحة وحيث يكون السؤال فاتحة أسئلة وحيث لا إجابة بل الإجابة هي البحث عن الإجابة وفي هذا الصخب المدني يتنامى شعور الشباب بحيوية البحث والشك في التفاصيل ينتهي إلى تدشين مساحات من الاتفاق والاختلاف يحاول خاتمي أن يجذبها دون أن يدمجها في درس الثورة ويجعل من خيارات الإجابة دافعاً إلى الامتثال للمخرجات الطبيعية لحرية السؤال وأن يتقبل القيد بوعي وترحاب -بحسب تعبير خاتمي- لكنه في الآن ذاته قيدٌ يقاوم العقلية التاريخية؟؟!!.

مدينة خاتمي فارسية أم إيرانية

براغماتية من نوع آخر يتمتع بها خاتمي وهي إضافة الطابع الوطني والإنساني لا القومي على أطروحاته حتى لا يشاغب الرقيب الفلسفي أو أن يتوغل في جدل قومي في عصر عدم القوميات، أو أن يخدش شخصيته الزعامية الرسمية كونه سيبقى يتمتع بظلال قيادية لها أطر ومحددات عصية على التكيف إلا أنه منجذب طوعاً وكرهاً إلى سقوف فلسفية ذات مرجعيات لا يستقيم تصنيفها إلا فارسية يتقاطع فيها بثقل مع المفكر الثوري علي شريعتي بمشروعه الإنساني الكبير المتحرر من البِرّ بقوميته الفارسية لمصلحة إيران وإلحاحها الإسلامي. المفكران تحركا في مفتتح تلقيها المعرفي في الدرس الإشراقي العرفاني الصوفي الذي رمى بظلال شفيفة على مساحات شعورية رحبة كان من شأنها توجيه الذوق والفكرة إلى مناحٍ شتى تتجلى عند جلال الدين الرومي والشيرازيين المؤسسين لعلاقة فارسية عرفانية بحتة لعبت اللغة الفارسية والخيال الفارسي والشك الفارسي واليقين الفارسي أدوارها النافذة في تعميق القران في طبيعة التلقي والتأويل والتماهي مع التفاصيل وفي أفقها تتشكل مدينة خاتمي القلقة مع إيرانيتها إزاء فارسيتها، وإسلاميتها إزاء فارسيتها عند شريعتي ليعزز خاتمي الصيغة المدنية ويطرح الأسئلة والخيارات ليختار أبناء مدينته القيد عن وعي وترحاب.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة