Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
فضاءات
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 

الاستيراد النقدي وافتقاد النمط الافتراضي
دراسة في بواكير النقد الأدبي السعودي «3»
د. لمياء باعشن

 

 

تبوأ كبار الأدباء المصريين مراكز الصدارة المطلقة في عالم الأدب العربي وصار التماثل معهم والوصول إلى مستواهم حلما مستحيلا، إن لم يكن ضربا من الجنون، ويبقى أقصى ما يطمح إليه أدباء الحجاز هو مقاربة من يلي من يليهم. ويعبر عن تلك الطبقية محمد عمر توفيق بانكسار شديد قائلاً: (إن أدباء مصر طبقات.. نستثني منها الطبقة الممتازة التي تمثل قيادة الفكر المصري، وهي طبقة المازني، والعقاد، وطه حسين، وتوفيق الحكيم.. ولكن ما يلي هذه الطبقة وما يليها وما يليها.. فريق من الشيوخ والشبان، لا ندعي أن بعض أدباء الحجاز يتساوون وإياهم من دون ممايزة أو تفريق، ولكننا ندعي اقترابهم من مستواهم هذا غير مغرورين أو متحاملين). ويكرر محمد عمر عرب هذا الرأي بقوله: (أدباؤنا أنتجوا لنا آثارا قيمة من النثر وأنماطا من الشعر إن لم تكن في مستوى أدب الأدباء المصريين البارزين الممتازين كالعقاد، والمازني، وطه حسين.. فهي في مستوى إنتاج من يليهم ومن يليهم من بعض أدباء مصر..). هذا الإكبار لأدباء مصر (الأفذاذ) والمقارنة المستمرة بينهم وبين الأدباء المحليين أفرز تقليلاً من شأنهم وحطاً من قدرهم في نظر نقاد مثل أحمد عبدالغفور عطار الذي يرى أن (ليس عندنا حتى اليوم الأديب الذي نستطيع أن نضعه في الصفوف الأولى).. مع الأدباء العرب الممتازين.. (بل ليس عندنا الأديب الذي يستطيع أن يمشي بجانب أدباء الناشئة بهذه البلدان العربية..)، وهم مرهونون بهذه المكانة الدونية حتى يُرزقوا (التشجيع من زعماء الأدب الجديد).

وقد يرى البعض أن المقارنة هنا غير عادلة مهما كانت نتائجها؛ ذلك أن صناع الثقافة السعودية الأوائل لم تكوّنهم الدراسة الجامعية.. (بل لم تكن الجامعة - كمؤسسة علمية - قد خرجت إلى الوجود بالمملكة حين بدأ صناع الثقافة رحلة نضالهم)، وكأن التعليم المؤسساتي هو الذي جعل المصريين (أدباءً حرفةً واتجاهاً فنياً). لكن، كما أن من بين أدباء مصر طه حسين الذي حصل على الدكتوراه من جامعة فرنسية، فإن من بينهم أيضاً العقاد الذي توقف عند مرحلة التعليم الأولى (الابتدائية) وعوّض التكوين الأكاديمي بالنهم المعرفي الاستثنائي. وقد اتبع أدباء الحجاز خطة العقاد في اقتحام المجالات المعرفية دون خطة تعليم منظمة، وراحوا يعبوا من مناهل الثقافة المصرية بتتابع وصول مطبوعاتها، يتابعونها بشغف قد يصل إلى حد الإدمان، وحين أطاعهم القلم وأجادوا الكتابة، أخذت (أرواح العقاد والمازني وطه وهيكل تطل من بين كتاباتهم.. ولعل ذلك من الإدمان الطويل لقراءتهم لهؤلاء الأدباء العباقرة). فليس من المستهجن بعد هذا الاحتكاك أن (يظهر أثر العقاد واضحاً في العطار.. وأثر طه حسين في عزيز ضياء، كما يبدو أثر الرافعي في محمد زيدان، وأثر التابعي ومدرسة أخبار اليوم بادٍ في العريف.. على تفاوت في درجة هذا الأثر فيهم قوة وضعفاً). ونظر هذا الجيل من أدباء الريادة والطليعة إلى الاتجاهات التي استحدثت على الساحة العربية على أنها مذاهب أدبية تمثلت في (الطحسنية والعقادية والرافعية)، وأشار قنديل في (الجبل الذي صار سهلاً) إلى إعجاب شحاتة بسلامة موسى وانتساب الزيدان إلى الرافعي).

ألصق هذا التأثر الحتمي بأدباء مصر تهمة التقليد بكتاب الحجاز الذين ظلوا بعد كل ذلك الإدمان على القراءة في نظر نقادهم يفتقدون (عمق التفكير والدراسات الدسمة)، ذلك أن أدبهم ينقصه (سعة الاطلاع بالمعنى الحقيقي). ورأى أحمد عبدالجبار أن الأدباء لن يكتسبوا القدرة على التميز إلا بالمزيد من التثقيف عن طريق تكثيف القراءة، ولكي يقف الأديب (في مصاف عمالقة الأدب.. يحتاج إلى كثرة المطالعة.. وإلى التخصص). لكن الأدباء بدؤوا يتململون من هذا الطوق الذي كلما شبوا عنه شب معهم، وعبروا عن استيائهم من تعالي الصحف المصرية وخاصة (الرسالة) عن نشر نتاجهم الأدبي، (فراح كُتابنا يرجونها أن تنشر لهم من نتاجا.. وراحت هي تُعرض عنا مكتفية بدرر العقاد ولآلئ قطب وفرائد النشاشيبي، واتخذنا نحن من إعراض الرسالة مقياساً لعدم صلاحية أدبنا الحديث). ويحكي حسين سرحان كيف أن بعض الأدباء قد اجتهدوا أن يكتبوا لكبريات الصحف الأدبية بمصر، لكنها (... على تقديرنا لها - تنظر إلى الأسماء فإن وجدتها زنانة كالذبابة طنانة كالنحلة، نشرت، وإلا فهي ملقاة مع الأكوام..). ونادى طاهر زمخشري بضرورة بلورة أدب إقليمي خاص بنا (يتردد صداه في صميم حياتنا) لا يحتاج إلى نزع اعتراف بجودته من المصريين، وذلك (بتثبيت أقدامنا في الوسط والبيئة) المحلية، فأدب (مصر يعمل لحساب المجتمع المصري.. ونحن وأمثالنا عالة عليه).

ومن هذا المنطلق بدأ حمزة شحاتة في التعبير عما سماه عزيز ضياء بالتعشق (الملهوف للاستقلال الفكري والحرص الممض على الابتداع والترفع عن الاتباع). ينظر شحاتة إلى التأثر بعوامل الانتشار الثقافي على أنه أمر لا يتعارض مع الاستقلال، ويفسر ذلك في محاضرته (الرجولة عماد الخلق الفاضل) قائلاً:

(وحسبكم أن تقرؤوا اليوم في أدب الحجاز أساليب من الشعر وأساليب من الكتابة لا يختلف بعضها عما تعرفون لخيرة الكُتاب والشعراء في مصر، فمن يعد هذا تقليداً أو سرقة، إنما هو أثر الاشتراك العام في مؤشرات فكرية متشابهة، أو أثر انتشار الثقافة، وتهيؤ أسباب العلم لمستحدثات العقل والفكر والصناعة والفنون، وتوثق الصلات الفكرية، والأدبية، وتوحد اللغة والدين، وتقارب الطباع والأمزجة وتأثر الاختلاط والامتزاج الاجتماعي والفكري.

وفي شعراء مصر من نجد على شعره سمات شاعر عربي قديم، وطابع صياغته. في كُتابها من نجد في آثاره ما يعلن عن صلته الصريحة بأديب من كبار أدبائها، وفي كبار أدبائها من تطالعنا آثاره بأفكار أديب، أو نظريات عالم، أو مذاهب فيلسوف من الغرب. فماذا نحن قائلون؟ غير أن مجال الفكر اليوم قد اتسع، وتحرر من القيود التي أقامتها العزلة القديمة بين الشعوب، وتجلت آثار حرية الفكر وشيوع مذاهب التفكير وأساليبها في أنحاء العالم وتقدم المواصلات والصلات الاقتصادية والفكرية والسياسية).

بهذه الكلمات ينزع شحاتة تهمة التقليد من جذورها عن الأدب السعودي، ويعزو التشابه الذي يدعي النقاد أنه استنساخاً لما يكتبه المصريون إلى (قرابات ذهنية وأدبية بين الناس.. كانت سبباً في القضاء على كثير من أسباب التباين الفكري والأدبي بين الشعوب المتباينة). تطفو هذه النبرة الشجاعة في التعبير عن الثقة بالنفس على السطح مرة أخرى في رد العواد على محمد عبدالمنعم الخفاجي حين ادعى (أن شعراءنا ينحون ناحية علي محمود طه وإبراهيم ناجي، والحقيقة أن في شعر بعض هؤلاء رومانسية ظاهرة ولكنها غير الرومانسية التي اعتمد عليها هذان الشاعران الرقيقان. ولا مانع أن تكون هناك خيوط تجمع الطريقين، غير أنها - على العموم - خيوط واهية لا تتمثل في غير الوصف الذاتي، والشوق البعيد، وهذان وتران عربيان يضرب عليها الشاعر السعودي بدون أن يحتاج إلى التمذهب على الرومانتيكيين الفرنسيين أو على متابعيهم من رومانتيكيي العرب).

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

- جدة


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة