Culture Magazine Monday  20/08/2007 G Issue 212
مداخلات
الأثنين 7 ,شعبان 1428   العدد  212
 

الدكتور إبراهيم محمد العواجي
الإداري والشاعر والمثقف

 

 

الشيء بالشيء يذكر كما يقال، وهذه حقيقة بسيطة وثابتة. فلقد أثار في نفسي بعض الذكريات القديمة (مسلسل حواري أجرته جريدة الجزيرة العدد 12690 في 27 يونيو 2007م) في شكل (إبحار في ذاكرة الدكتور إبراهيم العواجي) في جزئه الأول.

ففي معرض الحديث عن هذا الرجل القيمة والقامة تتكشف بجلاء حقيقة أنه قليلون جداً الرجال الذين تفخر بهم الألقاب والمناصب وبهم تتألق، وكُثر جداً الذين يتزيُّون ويتزينون بها، وبها يتألقون.. ومن عرف الدكتور العواجي معرفة عميقة وقاصدة لا بد أن يؤكد أنه من الطراز الأول من الرجال، علماً بأني ما كنت يوماً مداح الرجال بقدر امتداحي الرجولة في الرجال فحسب. عرفته معرفة موظف بسيط، حيث عملت بمكتبه وإلى جانبه طوال ما يزيد عن عقدين من الزمان.

فالرجل في تعامله مع موظفيه كبارهم وصغارهم كان متواضعاً كالرمل بقدر علو الكرامة فيه والشموخ في مواضعه. روح الإخاء والحميمية والتسامح لديه أعرض انتشاراً في صِلاته الرسمية رغم الحسم الإداري المحكم والضبط الحصيف للأمور. كان يتقدم كل موظفي أقسام وكالة وزارة الداخلية في الحضور إلى مقر العمل مهما كان ظرفه الخاص أو الظروف العامة حتى ينضبط (الدوام) بالقدوة الهادئة؛ تطبيقاً لمبادئ القيادة الإدارية الراشدة، ومع ذلك كان يتبنى نظام الStaff-Meeting بانتظام مع رؤساء الأقسام وكبار مساعديه حتى يتواجد هو في مفاصل وتفاصيل كل القطاعات بالاطلاع والتداول والتوجيه، سمة الإداري الاحترافي المحنك، فكان يطبق عملياً المنظور المناسب للحالات من محتوى كل فقرة مما درس من علم الإدارة وخاصة في العلاقات الإنسانية والعامة، وكان يطلق رسالة التعاون الجماعي وروح الفريق في العمل ويحبس في نفسه كل نزعة إلى الانفراد بالرأي برغم كل الثقة في الذات المسنودة بالمؤهل، إلا في المواقف الحاسمة التي توحي قناعة الاتجاه وحس المسؤولية بالفصل فيها. لم يتعمد استخدام الضعاف أو البسطاء من الموظفين للهيمنة والبروز على حسابهم كما يفعل بعض التنفيذيين في الخدمة المدنية، بل كان يسعى ما أمكن لتطوير اقتدار من يتواجد حوله من هؤلاء، بينما يستعين بكل تواضع وتقدير بصاحب الفكر الثاقب والضمير النابض والقلب الرصين ممن حوله بما يتساوق وموجبات المنصب الحساس وتبعاته.

هذا في جانب تعامله مع مرؤوسيه والآخرين، أما أهليته الإدارية فتتبدى فيما بدأ به في مجال تخصصه من تعديلات في الأداء البشري الوظيفي؛ بغية تقصير الظل الروتيني المتبع في الأداء وتسريع خطى العمل، فاستهل عمله بالوزارة بإعادة تنظيم الأجهزة؛ تماشياً مع قرار وزاري صدر حينها وتنسيقاً مع توجهات ديوان الخدمة المدنية، وكان وقتها وكيلاً مساعداً وليس الوكيل الدائم، فأحدث زخماً صارخاً من التنظيم الشامل حيث دمج بعض الإدارات وفصل أخرى عن بعضها البعض في فلترة دقيقة للاختصاصات، وأحدث إدارات جديدة كالإحصاء، وعمل على تغيير الكثير من المفاهيم التقليدية في طريقة العمل، ووضع حدوداً مميزة لشكل وثائق الوزارة، وكوّن اللجان المؤقتة والدائمة لمتابعة التنظيم والإدارة.

سرعان ما ترقّى بعد ذلك إلى منصب وكيل وزارة الداخلية، وإلى جانب المحيط المتلاطم من هموم ومهام المنصب الإدارية - الأمنية - السياسية - الدبلوماسية المحلية التي صادفت عهد الطفرة التنموية بكل تشعباتها وإفرازاتها، اضطلع أيضاً بمهام دولية حيث اختير لرئاسة المجلس الدولي لمكافحة الإدمان والمخدرات ومقره في لوزان بسويسرا، هذا فضلاً عن الإشراف على تنفيذ الاتفاقيات الدولية التعاونية التي التزمت بها الوزارة مع أطراف دولية.

وكان يدير مناشط هذه المنظمة من الرياض من داخل مكتبه بالوزارة، فانعكست جدارته بالثقة الدولية في تكليفه بتولي شؤون المجلس لأكثر من دورة رئاسية، كان نائبه في هذه المنظمة وهو طبيب بارز في علم النفس يجيد تحليل الشخصية من المعجبين بشخصية الدكتور إبراهيم الإدارية ومضائه في التنفيذ. قال لي ذات مرة يتحدث عنه: The man is of Napoleanian will, that is why he towers so high above many of the others.

أي إن الرجل (نابليوني) الإدارة؛ الأمر الذي جعله يعلو هامةً على الكثيرين من الآخرين.

ومن حيث توجهاته القومية يفوح الدكتور العواجي ويتقطر عروبة، ولكنه لا يتعنصر لها في أي قدر من الجهالة، ويتسامى عن العصبية في الأمور العامة، سمة المثقف المتحضر الراقي الدمث الخلال، تتجسد فيه مفردات الشخصية العامة من مودة وحميمية ووفاء مع التسامي والشمم.

أما إبراهيم العواجي الأديب الشاعر فمجال تناوله غير هذا؛ إذ تقصر عنه المقدرة والمساحة، فالكل يدرك أنه من فرسان الكلمة المنظومة، وساحة امتداده الأدبي واسعة على مستوى المشرق العربي كشاعر مطبوع ومكثر يكتب الشعر في سهولة التنفس كما توحي لقرائه دواوينه التسعة. والمعروف عنه من حيث أغراض شعره أنه مسكون بنجد وحواء لا يضاهيه من معاصريه في تنقيب مناجم حواء عن كنوز نعومتها وعطرها وسحر ملامحها سوى ذلك الدمشقي الأشقر الراحل الذي شغل شيب وشباب العرب بالافتتان والتغني بالمرأة، غير أن الدكتور العواجي يتدفق حبه في قصائده في وعاء الكلمة العفيفة والخلو من الغبار الآدمي. وكثيراً ما نلتقيه في شعره فيلسوفاً يترشف الفكر التأملي، فعلى سبيل المثال، عندما ينصبّ عفواً في متلازمة ثنائية كولد ووالد في آن معاً، مخاطباً أباه الراحل من خلال ملامح صغيرة (ثامر)، متأملاً قوالب التكرار التعاقبي في الحياة التي اختزلت في ناظريه في لمحة أجيال كان الشاعر فيها ومنها وإليها برغم محاولته تغييب الذات عن المشهد لإبراز تمازج الجد والحفيد؛ إذ يقول:

كلما جلت في محيّا صغيري

جئتَ ذكرى وخافقاً وشجونا

لست أدري فربما كل شيء

فيه كنت أصله المستكينا

تتميز قصائده بالصدق والعفوية والإيناس في نقاء وتعفف عن المباشرة الوقحة في كل أغراض نظمه. ولا شك أن لنقاد شعره وذواقة فنه وطرائفه شأناً أكبر وأدق وأشمل من شأننا.

إبراهيم أحمد شليه


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة