Culture Magazine Monday  02/02/2009 G Issue 269
عدد خاص
الأثنين 7 ,صفر 1430   العدد  269
كوكب مكارم الأخلاق والعلم
أ.د. محمد خير البقاعي

 

تلقى الرجل أول مرة فيخيل إليك أنك تعرفه منذ سنين طوالا، تلك كانت حالي مع الشيخ أبي عبدالرحمن، لقيته فلم أجد وحشة اللقاء، وعرفته فعرفت فيه كوكباً من مكارم الأخلاق والعلم، لا يخص بها أهله وأصحابه وإنما هي عامة تبذل لكل من ورده طالب عون أو طالب علم.

أبو عبدالرحمن عون الصديق، وملاذ كل من يقصده ما استطاع إلى ذلك سبيلاً. إذا كلمته ووعدك تجد في ملامح وجهه وفي لهجته صدق ما يعدك به في حدود إمكاناته القصوى التي تثق في أنه سيبذلها. أما إن كان العون من يده فأنت حاصل عليه بلا شك. وإذا استمعت إليه يتحدث عن أصدقائه وخلطائه قديماً وحديثاً طربت لنغمة الوفاء في حديثه.

حتى أولئك الذين اختلف معهم، وقد يكونون قد أساؤوا إليه يسكت عنهم أو يطلب لهم الهداية والعفو من الله. أما كرمه فيظن الكثيرون أنه يبلغ في كثير من الأحايين حد الإسراف. وقد حدثني كثير ممن أثق بهم وممن كانوا يغشون مجلسه ويقرؤون عليه كتب ابن حزم وغيره عن كرمه في أيام الخوالي على ضيق ذات اليد، وعرفت ذلك منه بعد أن منَّ الله عليه بصحبة صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبدالعزيز. ووفاؤه لهذا الرجل أصل لفروع وفائه لمن يضعون فيه ثقتهم. تراه يهب لنجدة من غالهم الدهر، وقد اطلعت على شيء من ذلك عندما كتبت عن المرحوم الدكتور إبراهيم السامرائي الذي كان يعيش في عمان بعد مصائب العراق، وتحتوي رسائله إلى الشيخ أبي عبدالرحمن مادة في إغاثة الملهوف مادياً ومعنوياً بلا من ولا ادعاء. أبو عبدالرحمن يحدث العامي والمتعلم ويصغي لكل منهم بعقله لأن الله منحه القدرة على الإصغاء لكل حسب السقف الذي ينتظره منه. إنه كما قال البحتري:

كالبدر أفرط في العلو وضوؤه

                                                      للعصبة السارين جد قريب

ولعله يصح في أبي عبدالرحمن ما قاله سفيان الثوري عن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ابن الأنباري، نزهة الألباء، ص 47) من أراد أن ينظر إلى رجل خلقه الله من الذهب والمسك فلينظر إلى الخليل. وأبو عبدالرحمن خلقه الله من الذهب والمسك، كرم سجايا، وطيب ذكر.

أبو عبدالرحمن كثير الحفاوة بضيوفه، وبأهله، إذا مدت موائد الطعام تراه يسأل عن الحارس والسائق والعامل، يذكرهم بأسمائهم، ولا يهنأ له طعام حتى يطمئن إلى أن الجميع ورد المائدة. وإن اعترى التقصير بعض الجوانب فلأنه غير قادر على إصلاح ذلك التقصير لا انصرافا منه عنه، ولكن الظروف التي آل أمره إليها تمنعه من ذلك، وتتطلب من أهله أن يكونوا عوناً له في مهماته، لا عائقاً يقف في سبيل تحقيق ما يضطلع به من مهمات. إن وفاء الشيخ لمن رافقهم وعاصرهم واختلف معهم ووافقهم وفاء يشهد به ترحمه على من مات منهم، ودعاؤه بطول العمر لمن بقي منهم، وسؤاله الدائم عنهم وعن آثارهم، وهذا الوفاء سجية من سجاياه التي يعرفها القاصي والداني.

لقد كنت في كثير من الأحيان أضيق ذرعاً بنقاشات المتنطعين الذين يقصدون مجلسه لعرض علومهم، وهو يستمع إليهم ويوجههم، وهم يلجون في التمسك بآرائهم، ويخرجون وهم كما جاؤوا بل أشد جهلا لأنهم رأوا الحق ولم يتبعوه صلفا وعنجهية.

يخطئ الشيخ ويصيب، ولكنه في خطئه يمثل ما حفظته من قولهم: إن الإنسان جميل بأخطائه، وليس أسهل على الشيخ من العودة إلى الحق عندما يتبدى له بعيد عن التعصب والتطرف في كل شيء، ينهى عنهما كل من يغشى مجلسه من شاب أو رجل أو كهل، ينهى عن ذلك في القول والعمل، فكل شيء لديه ميسر ما دامت النية صادقة، والمحجة واضحة.

وله في ذلك مجالس ومواقف. إذا قرأ القرآن في صلاة كان لقراءته وقع لذيذ على السمع، يدخل القلوب بلا استئذان، وإذا باشر التفسير رأيت منه عالماً بلغة العرب وبأساليبها في القول لأن القرآن قمتها، وإذا أنشد الشعر عربياً فصيحاً رأيت الضبط وحسن الاختيار، وإن أنشده نبطياً رأيت الحكمة والتاريخ، وتسجيل واقعة أو ذكراً لعبارة أو رجل أو نسب يريد تحقيقه وضبطه. وإذا قرأ كتاباً مترجماً في الفلسفة أو غيرها خيل إليك أنه عارف بلغة الأصل لشدة تدقيقه وفهمه لمجاري الكلام. وإذا جرى الحديث في الفقه رأيته يحوز قصب السبق في مذاهب الأئمة البعيدة عن التهويل والخشونة، وإذا دخل مجال التاريخ رأيته كأنما يقرأ من صفحات أمامه. إنه الفارس المجلي في الفنون والعلوم، وعلى ذلك تجده في كل يوم مستزيداً يستطلع أخبار البلاد والعباد والكتب والنصوص يعود إلى قضايا تظنها نائمة فيبعثها من مرقدها ليزيدها تحقيقاً وتدقيقاً. لو دققت في كتبه لرأيت الموسوعية في أجلى صورها تأليفاً وتحقيقاً وتفسيراً وأنساباً وتاريخاً وشعراً ونثراً. ولما تحقق حلمه بإصدار مجلة اختار لها هذا الاسم العزيز على الذاكرة السعودية الذي يمثل عنوان الانبعاث والقيامة من تحت الرماد (الدرعية) لتعنى بتاريخ المملكة والعرب وتراثهم.

إن مسيرة الدرعية في تنوعها، وغناها تكاد تكون مسيرة تمثل مسيرة أبي عبدالرحمن، ولعلها تستمر في تحقيق مهمتها العلمية الرائدة على الرغم من كل العقبات. أبو عبدالرحمن يتكلم فيخيل إليك أنه يحفظ كتب اللغة والتاريخ والأنساب والجغرافيا، كم مرة راجعت فيها ما سمعته منه من نصوص على كتب من يذكرهم فوجدتها كما ذكرها.

أبو عبدالرحمن لا يجد حرجاً في ذكر من يقتبس عنهم بل إن اقتباساته تعطي في كثير من الأحيان قيمة للنصوص التي يقتبسها هي أكبر من القيمة التي لتلك النصوص في مواضعها، أبو عبدالرحمن شيخ الأمانة العلمية في التقميش والتفتيش. وأبو عبدالرحمن قليل الشكوى، لم أسمعه يشكو إلا من مصيبته في مكتبته التي تنقبض نفسه كلما جاء ذكرها، ويعد مصابه فيها واحدة من نتائج ثقته المفرطة بالناس؛ وهي ثقة لم تتغير، بل أصبح اختيار من هم أهل لها يتم بمقاييس أكثر صرامة. على الرغم مما حدث. لقد سارت الركبان ب(التباريح) و (صداع العقول) حتى صار ما يكتبه الشيخ بهما مصدراً من مصادر المعرفة ورده عذب سائغ كثير ممن أحبوا قلم أبي عبدالرحمن على امتداد الوطن العربي والإسلامي، وفي الغرب والشرق. أما كتبه فلا أذيع سراً لو قلت: إن أكثرها نافد ولعله يعيد طباعة ما نفد بعد أن أصبحت عرضة للسل والسرقة، كما هي حال كتابه عن ابن حزم في ألف عام، وما دمنا أتينا على ذكر ابن حزم فليكن حديثنا عنه مسك ختام هذه الكلمة. إن علاقة الشيخ بابن حزم علاقة قديمة جرت على الشيخ خصومات حرمته مما هو أهل له، ولكنه لم يتحول عن إعجابه بالإمام، ولا عن العناية بأقواله وآرائه وبكتبه مخطوطة ومطبوعة وضائعة حتى صار المرجع في ذلك على امتداد العالم الإسلامي وغيره.

اطلعت على كثير من الرسائل والبحوث التي أرسلها كثيرون من المهتمين بالإمام ابن حزم يستفتون الشيخ في قضية تخص ابن حزم وكتبه وآراءه. وتستمع إلى الشيخ يتحدث عن ابن حزم فيخيل إليك أنه يحفظها عن ظهر قلب. يعرف مواضع الضعف فيها، ويقف عند أخطاء ابن حزم، وعند تجلياته فلا تمنعه تلك من الحديث في هذه، ولا تجعله هذه يغض الطرف عن تلك. أبو عبدالرحمن وابن حزم مثال للعلاقة العلمية الموضوعية التي لا تقف عند الصغائر ولا تهاب من قول الحق ولو على نفسها.

ابن حزم وقع من الشيخ موقعاً عزيزاً ولكنه لم يصمه ويعميه عن كتب الأئمة الآخرين أو عن كتب التراث الأخرى، تسأله عن كتب أئمة اللغويين وشراح الشعر وكتب التراجم والسير والتفسير وكتب الفقهاء، وعن تاريخ الحركة الإصلاحية وعن كل ما أحاط بها من جدل ونقاش تجده محيطاً بكل ذلك، ما طرقت باباً إلا فتحه لك وشفى غليلك، يفيدك ويستفيد منك، ولا يكاد مجلس من مجالسه يخلو من فائدة في العلم أو الحياة.

إن صحبة الشيخ انفتاح على عالم من التجارب التي جعلت منه ما هو عليه.

أطال الله بقاءه، وأدام النعمة عليه لأن الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ولعل الجهات الرسمية التي اعتادت تكريم الشخصيات الوطنية في المملكة (الجنادرية وغيرها) أن تلتفت (وقد بادر النادي الأدبي في الرياض وثلوثية المشوح إلى مثل ذلك) إلى تكريم المسيرة العلمية التي أنجزها الشيخ أبو عبدالرحمن، وهو-لعمري- أهل لذلك.

وإني أقترح على الشيخ أبي عبدالرحمن في نهاية هذه الكلمة أن ينشئ موقعاً إلكترونياً على الشبكة العنكبوتية يسمى موقع (الحزميون) يضع فيه ما كتبه عن ابن حزم، ويفعل المهتمون بابن حزم مثل ذلك، تطرح فيه كل الأسئلة التي تخص ابن حزم وتراثه وآراءه، ومخطوطات كتبه المطبوع منها والضائع، ويكون الموقع نافذة للتواصل العلمي.

إذا كانت الشهادات فيمن نحبهم مجروحة فإن شهادتي بأبي عبدالرحمن مذبوحة لأنني وجدت فيه كثيراً من ذات نفسي فلم يخذلني ولم يخذل غيري في واحدة مما يقدر عليه، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.أطال الله عمر شيخنا، ومتعه بالصحة والسعادة ومتعنا بصحبته إنه على كل شيء قدير.

عضو هيئة التدريس في جامعة الملك سعود

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة