Culture Magazine Thursday  02/07/2009 G Issue 290
فضاءات
الخميس 09 ,رجب 1430   العدد  290
(للشعر جناحان يطيران)
د. أشجان هندي

 

للشعر جناحان يطيران، وللشعراء الحقيقيون أرواحٌ تتنفس وتحلّقُ عاليًا.

أيكونُ شاعرًا من لم تكن له أجنحة؟ أيبدعُ شاعرٌ ليست له روحٌ حرّة؟ ما الذي قد يعيق الشعراء من التحليق في ملكوتِ الشعر الأرحب؟ وما الذي قد يعيق الشاعرة تحديدا من هذا التحليق؟

سأنطلق في هذه الورقة من المحاور السابقة لحديثٍ عن الحرية والإبداع في الشعر.

للشعرِ جناحان يطيران، وجناحا الشعر هما الحريةُ والإبداع ودونهما لن يُحلّق. وما خلّد التاريخُ ولن يُخلّد اسما لشاعرٍ دون سواه إلا وكان شاعرًا حرًا في روحه وفكره وطريقة عيشه التي يعبّد هو لها الدربَ لتكون كما يُريدُ لها أن تكون.

الحرياتُ التي تتحقق من خلالها عملية التنفس اللازمة شعريا؛ لا تشمل فقط ما ننتظره من الآخر، أو ما ننتزعه أحيانا؛ هذا جزء من الحرية التي أقصدها هنا. أما الحرية الأهم فهي حريةٌ لا تُمنح ولا تُطلب، بل تنبعُ من الذات أو الروح الشاعرة التي تكون مصدرا أوحدا لهذا النوع من الحرية. إنّ بناء الذات الشاعرة الحرة لدى الشاعرة أو الشاعر هو جزءٌ من العملية الإبداعية. وشاعرٌ لا يبني ذاتَهُ الشاعرةَ هو شاعرٌ لا يُحسنُ بناء القصيدة.

الشعرُ الحقيقيُ لا يكتبه إلا من تحررت روحُه من منادمةِ الإصرارِ على بلوغِ حدِّ الترفِ من المفردات اليومية حتى العاطفيَّة منها. حين يقفُ جشعُ الحاجةِ والرغبةُ في الامتلاءِ لا الكفاف، أو يقف الكذبُ والخداعُ والمصالحُ والغرقُ في العادي والحرصُ على الظَفَرِ بالمُلتبِس بالزيفِ أمامَ روحِك الشاعرةِ تنتفي عملية الإبداع ويسيلُ قلمُك بما يُشبه العاديَ دون أدنى مستوى من التميّز. حين تصلُ حدّ الامتلاء حتى من العاطفة؛ فإنك لن تكتبَ القصيدةَ الحرّة. فالقصيدةُ وجع يتلفُ حريّتَه حدُّ الشبع.

حين تتشبّثُ بالتضاريسِ التي لا تصلح لك، أو التي لا تصلح أنت لها، أو حين يتعلّق قلبُك بالبشر الذين لا يشبهونك، أو الذين لا تشبههم أنت في مقابل تخلّيك الكامل - أقول الكامل - عن أوكسجين حرية إبداعك؛ فإنك تقتلُ القصيدة. حين لا تعرفُ روحُك الطيرانَ حين يكونُ الطيرانُ لازما وحتميّا؛ فإنك لن تكتب القصيدةَ الحرّة. وهكذا؛ كلما اتسع فضاءُ الشاعرِ واعتاد التحليقَ الحرَ في ملكوت اللهِ الأرحب أصبحت روحُهُ أكثرَ حريةً وصار ما يكتبه شعرا؛ فالشعرُ هو التحليقُ الأنيقُ؛ حيثُ تُحلّقُ النسورُ، والهممُ العاليةُ، والأرواحُ المضيئةُ.

وإن اخترتَ حالةً جغرافيةً، ثمّ أنخت فيها قافلةَ جسدِك مُطمئنا راضيا مختارا، وأنستَ بوصلِ حبلِ الودِّ مع بشرٍ تطمئنُ إلى قربهم روحُك، فإنّ ذلك ليس منتهى انعتاقِ الروحِ الشاعرةِ المبدعةِ من الأسر؛ فالحبَُ أيضا قيدٌ من قيود الإبداع التي تحول دون انعتاقِ القصيدة. وقيدُ الحبِ أقوى وأشدّ مضاضةً من القيودِ المفروضةِ التي يوجبها غيرُ الحب. فأنت قد تتنازلُ طائعا مختارا عن بعض حريتك من أجل الحب، وقد تموتُ قصيدتُك شهيدةً في سبيلِ دوامِ عافيةِ جسد الحبِ.

كلُّ ما سبق يُحمّلُ كتفَ عمليةِ بناءِ الذاتِ الشاعرةِ الحرةِ لدى الشاعرِ ما قد لا تستطيعُ حملَه أحيانا، ويجعلُ عملَ الشعراءِ داخلَ إطارِ حريةِ الإبداعِ المقصودةِ هنا أكثرَ مشقة، ويشي بأنّ الحريةَ غيرُ مطلقةٍ تماما في الإبداع كما هو الحالُ في الحياة بأسرها، وأن اكتمالَها حُلْمٌ أو رغبةٌ مخاتلة. إنّ العملَ على انجازِ حالةِ شبهِ تمام الحريةِ في الإبداع في مناخاتنا العربية هو التحدي المقصود الذي يجعلُ من هذه الحريةِ المرتجاةِ المشتهاةِ - كثمرةٍ محرّمة - وعدًا لا يُنجزهُ غيرُ المبدعينَ الذين يجيدون تحقيقَ معادلةِ شبهِ التمامِ الصعبة.

أما وأنّ ما سبق من غيمِ الكلام قابلٌ لأن يسيلَ على شعابِ وأوديةِ الشاعراتِ والشعراءِ على حدٍّ سواء؛ حيثُ الروحُ الشاعرةُ هي الروحُ الشاعرةُ لا ذكرٌ يختصّ بها ولا تختصُّ بها أنثى. فإن انتقالَ هذه الورقةِ إلى ملامسةِ شيءٍ من محاذير الكتابةِ عند الشاعرات سيجعلُ غيمَ الكلامِ أكثرَ قربا من عطش الشاعرات، ولكنه بالتأكيد لن يغفل ظمأ الشعراء. ومن قال إن الشعراء لا يظمئون، وإنّ لا محاذير لديهم في الكتابة ما دمنا نتحدّث بالتحديد عن مجتمعاتٍ لم تعُد تُسرُّ بتأملِ شمسِ الوعي إلا في لحظةِ المغيب؟

إن سلّمنا بأنّ دورَ المرأةِ والرجلِ تكامليٌّ على صدرِ هذه الأرض كما أرادته الحياة، لا كما لا يريدهُ البعض؛ فإن وجع الشاعرات والشعراء واحدٌ، وإنّ محاذيرَهم وعوائقَهم واحدةٌ، وإن اختلفت أوجهُها باختلافِ جنسِ كلٍ منهما؛ ذكرٌ وأنثى، أو أنثى وذكر.

للشاعراتِ محاذيرُهُنّ في الكتابةِ كما للنساءِ محاذيرُهُنّ في الحياة وسطَ مجتمعاتٍ تنظر إلى المرأةِ باعتبارها النصفَ الفارغَ من الكأس.. الشاعرةُ في المقام الأول امرأةٌ لها محاذيرُها، فضلا عن أنها تختار الإبداع؛ بمعنى أنها تختارُ ما هو أكثرُ كشفا، وأكثرُ تحديّا. وهكذا يزداد نصفُ الكأسِ الفارغِ فراغا حين تكونُ هذه المرأةُ مبدعةً وشاعرة.

وهنا يأتي دورُ الأسرةِ داعمةً وحاميةً وسط هذه المجتمعات التي لا ترحم الشاعرات. وهنا يكون للرجل الواعي أبًا كان أم أخًا أم زوجًا أم صديقاً أم رجلاً داعماً على الإطلاق دورٌ لا يمكن تغيبه في تشكيل الصدفة الصلبة التي تحافظ على اللؤلؤة/ الشاعرة بعيدًا عن كيد الدجالين وقراصنة البحار. هذا الأمر أو هذه الحماية تجعلُ الدربَ في البدايةِ أقلَ وعورةً - بالتأكيد - على شاعرةٍ تولدُ في مجتمعاتٍ مفتونةٍ برؤيةِ شمسِ الوعي في لحظة الغروب.

ولكنّ هذه الحمايةَ تظلُّ على أهميتها مرحلةً مؤقتةً تعملُ الشاعرةُ بجهدٍ كبيرٍ على تجاوزِها إلى مرحلةٍ أكثرََ نضجا تقوم فيها بحمايةِ مكتسباتها ومحصولِ حقلها دون اعتمادٍ شبه كلّي إلاّ على ذاتها المتحققة من خلال إبداعها. وهكذا فكلما ازدادت الروحُ الإبداعيةُ لدى الشاعرةِ وعيًا وخبرةً ودُربةً نتيجةَ الاحتكاكِ الفعلي بمفردات الحياةِ بكل ما فيها ازداد إبداعُ الشاعرةِ نضجا، وبالتالي ازدادت الشاعرةُ مقدرةً على التحرر شبهِ التام من صدفةِ الحمايةِ الأُسريةِ وغيرِها من أشكالِ الحماية المُحبّةِ الداعمةِ الأخرى، وأصبحت أكثرَ اتقانا للتعاملِ بحنكةٍ وذكاءٍ ودهاءٍ مع الدجالين وقراصنةِ البحار.

كم هو الإبداعُ المُحلّقُ.. كم هو الشعرُ الحرُّ حارسٌ مخلصٌ للشاعرة، وكم هو قويٌّ أمينٌ قادرٌ على حمايتها كأنثى!!!

أمّا الشاعرةُ التي تعيشُ في المجتمعات التي تصرّ على النظر إليها كنصفٍ فارغٍ من الكأس وهي تفتقد طوالَ رحلةِ سيرها شعرًا إلى من يحبُ ويدعمُ ويحرصُ بدءا من أسرةٍ متفهّمةٍ، ومرورا بأصدقاء حقيقيين، أو بشرٍ مصدّقين بروحها الشاعرة وداعمين لها سرًا أو علانيةً؛ فإنها ليست شاعرة، بل هي أسطورةٌ تسيرُ على قدمين.

المبدعةُ في عوالمنا العربية: لا تطلبُ الإيمان بها كمبدعةٍ فقط، بل التصديق بها ذاتًا إنسانيةً متحققةً في المقام الأول.

ورقة قدمت في (مهرجان الدوحة للحرية والإبداع) برعاية وزارة الثقافة والفنون والتراث القطرية والمؤسسة العربية للديمقراطية في الفترة من 9-12 أبريل 2009م.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة