Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
لعبة السرد والتقرير في (الجنية)
د. سعيد يقطين

 

1- تقديم:

غازي عبدالرحمن القصيبي علم من أعلام الثقافة العربية الحديثة. ساهم فيها بقسط وافر من العطاء الفني المتميز في مضماري الشعر والسرد علاوة على أعماله الفكرية. وإذا كان للشعر حضور قديم في المجتمع العربي في المملكة العربية السعودية فإن إسهاماته في هذا المضمار إسهام في إغناء التجربة العربية السعودية وإثراء لها. لكن اعتبار الرواية نوعا سرديا حديثا في الأدب السعودي، يدفعنا إلى التسليم بدوره الطليعي في تفجير الطاقات السردية والروائية بصفته مبدعا حقيقيا، أبرز أن الرواية مجال تعبيري له خصوصياته، ويمكن للعربي في المملكة العربية السعودية أن يكون روائيا، وأن يقدم شيئا يثري التجربة الروائية العربية والعالمية. وفعلا بدأنا الآن نجد علامات روائية سعودية تفرض وجودها وتستقطب الاهتمام إلى إنجازاتها.

لا أحد يمكنه إنكار الدور الريادي للقصيبي الذي اقتحم مجال الرواية بجرأة نادرة وتميز فني حقيقي، مجسدا لها بذلك مكانة خاصة في المجتمع السعودي. وما مواصلته الإبداع الروائي سوى دليل آخر على الدور الذي لعبته نصوصه المختلفة في إثراء المشهد الروائي وطنيا وعربيا.

إن الثقافة الموسوعية التي يمتلكها غازي القصيبي وتمرسه بالشعر وتذوقه له وإحاطته بأسراره، وخبرته بالحياة وغنى تجربته العلمية والعملية،كل ذلك جعل منه روائيا بامتياز. إن الرواية عالم فسيح من الخبرات والتجارب والمهارات. وصياغة هذا العالم المركب بواسطة اللغة لا يتأتى إلا لمن جمع إلى غنى التجربة الحياتية عمق الرؤية إلى الأشياء والقدرة على التعبير عن كل ذلك بلغة فنية ذات مسحة جمالية راقية.

كل هذه الصفات تتوفر في أعمال القصيبي .وهذا ما أضفى على تجربته الروائية خصوصية وتميزا على مستوى الرواية العربية. وذلك ما يمكننا تبينه من خلال التوقف، في هذه القراءة، على روايته (الجنية) من خلال التركيز على ما أسميناه لعبة السرد والتقرير.

2- الحكاية/ الرواية:

تتقدم إلينا (الجنية) من خلال مُناصَّين نوعيين اثنين: فهي (رواية) من جهة، و(حكاية) من جهة أخرى. يظهر لنا المناصان معا على الغلاف. فعلى يسار الغلاف في الأعلى، نجد (رواية) بالعربية متداخلة بالإنجليزية. وتحت العنوان، نجد: (حكاية). واضح أن (رواية) تبدو لنا وكأنها (رمز) من وضع الناشر للسلسلة التي نشر ضمنها هذا العمل. وأن (حكاية) من اختيار المؤلف. يتأكد لنا هذا في الفصل الأول من الجنية، حيث يبين لنا الراوي أنه مستاء من تقعر النقاد ومصطلحاتهم، وأنه سمى الجنية (حكاية).

يمكننا، من هنا، الانطلاق من اللعبة المشار إليها.فبين الميثاقين: حكي حكاية وكتابة رواية، مسافة، من جهة أولى، بين الحكاية ذات البعد الشفوي والتي عندما ننتهي منها، نسلم ب(عجائبيتها)، وكأننا نقول: انتهت الحدوتة، ونحن منبهرون بعوالمها وتفاصيلها المشوقة، وننخرط في حياتنا الواقعية، متناسين (الحكاية) وأجواءها، أو تاركينها تفعل مفاعيلها في لاشعورنا إذا كنا ممن يصدق الحكاية.

من جهة ثانية، بين الرواية ذات الطابع الكتابي التي نؤكد بحدسنا القرائي (وإن كانت متخيلة) أنها تقدم لنا خبرة حياتية (واقعية) علينا أن نتفاعل معها ونناقش أفكارها وما تطرحه من قضايا حياتية تتصل بمختلف جوانب الحياة.

يكمن اللعب هنا، حيث يأخذ شكل تقنية كتابية، في كون المؤلف، من خلال التقرير، يحتل موقع الراوي، ليزعم لنا أن (الجنية) حكاية. ولكنه في الوقت نفسه، يعطي الراوي دور المؤلف، من خلال السرد، ليقدم لنا الجنية (رواية). ومن خلال تناوب التقرير والسرد في الجنية يبدو لنا العمل (رواية حكاية) وحكاية رواية يتداخل فيها العجائبي (الحكائي) مع الواقعي (الروائي)، فإذا نحن أمام (رواية عجائبية) أو عجائبية واقعية. إنه، بتعبير آخر، التداخل بين (السرد) (العالم المتخيل) و(التقرير) (العالم الواقعي). وهذا التداخل تتعدد روافده في الجنية ولتحليل جزئي أن يقف على مختلف عناصره ومكوناته.

3- الراوي/ المؤلف:

يبدو لنا التداخل المشار إليه أعلاه في كون المتكلم الأساسي في الرواية هو الراوي -الشخصية. إن ضاري ضرغام الضبيع هو الراوي- البطل الذي يحكي لنا قصته الذاتية. إنه يبدو وكأنه (ظل) الكاتب. وكي لا نقيم تماثلا بين الراوي والشخصية والمؤلف، كما كان يفعل النقد ما قبل البنيوي، نقول إنه (الذات الثانية) للكاتب.

إن ما يؤكد لنا كون الراوي - الشخصية يتخذ دور المؤلف يبدو لنا من خلال عنصرين اثنين:

أ. تحديد نوعية النص:

عندما يقدم الراوي نفسه إلينا في الفصل الأول من الرواية. إنه يبرز لنا اختياره (الحكاية) ضد آراء النقاد. وهذا القول لا يمكن، في واقع الحال (نصوص روائية كثيرة) أن يصدق أو يحتمل إلا من المؤلف، وليس الراوي، للمسافة التي يخلقها المؤلف مع راويه. ولو لم يثبت المؤلف (حكاية) على الغلاف، لسلمنا بأن الراوي يتصرف من تلقاء ثقافته، وله الحق في أن يسم (مادته الحكائية) بما يشاء.

ب. تحديد المرجعية:

عتبة النص (شكر) نص يكتبه المؤلف. لكننا نعاين أن هذا الشكر يتصل بالأصدقاء الذين أمدوه بالمراجع المتعلقة بعالم الجن والسحر. كما أن المناص النهائي المتصل بذكر المراجع المعتمدة لا يمكن أن يصدر إلا عن المؤلف. لكننا سنجد الراوي يوظف المراجع المذكورة في مختلف علاقاته بشخصيات النص، الشيء الذي يثبت العلاقة بين الراوي والمؤلف. كما أن مخاطبته القارئ دليل آخر هذا التواشج.

هذا التداخل بين الراوي والمؤلف يتحقق أيضا من خلال التداخل بين السرد والتقرير، فيكون التناوب بينهما حينا، كأن يأتي فصل (أنا رائد الحب) بصيغة السرد فتقدم لنا أحداث من القصة، ويليه فصل آخر (أنا والجن)، بصيغة العرض، متخذا أسلوب التقرير في تقديم أفكار ومعلومات عن الجن والسحر. ويستسمح الراوي القراء من تسلسل الأحداث، ليقدم حصيلته من المعلومات، مؤكدا أنه سيلجأ إلى هذا الأسلوب (أكثر من مرة). كما أنه أحيانا أخرى يكون التداخل بينهما، في فصول أخرى، يحضر فيها الراوي مع قنديش أو مع زوجته آني أو عائشة قنديشة، فنجد السرد إلى جانب التقرير. ولعل تعدد صيغ الخطاب التي تتقدم إلينا من خلالها (الجنية) لها دخل في تكريس هذه العلاقات التي يأخذها السرد مع التقرير في الرواية.

4- صيغ الخطاب:

إذا كانت الحكاية، حسب تعريفها العام، تتصل بمادة حكائية يضطلع راو يعرف تفاصيلها بتقديمها عن طريق صيغة السرد، فإن (الجنية) في بنائها وكيفية تنظيمها تخرج عن هذا التحديد لأنها تنبني على أساس قواعد (الرواية): عدة فصول مترابطة، تتقدم إلينا بصيغ خطابية متعددة على النحو التالي:

4- 1- السرد: يتصل السرد في النص بكامله ب(الحكاية) (المادة الحكائية المتصلة بالزواج من عائشة قنديشة) التي يقدمها لنا الراوي على شكل شذرات، وباقتصاد شديد على مدى اثنين وعشرين فصلا، مالئا اللحظات التي يغيب فيها السرد بما أسميناه التقرير.

إنها قصة ضاري ضرغام الضبيع الذي تزوج أربع نساء من بينهن الجنية (عائشة قنديشة) التي هي محور (الحكاية). لقد اتخذت عائشة صورة فاطمة الزهراء التي أحبها. يتزوج الراوي بعائشة فيكون أسعد الناس، ويفترق عنها لأنها لم تكن طبيعية معه. لقد كانت تعامله ككائن مقدس. وتشترط عليه للرجوع إليه أن يتزوج ليقارن. يفشل في زواجه مع الأمريكية آني، ويتزوج بعدها ابنة عمه بناء على وصية والديه، ويكون المآل هو الفراق مرة أخرى. وتعود إليه عائشة بشروط جديدة. يعيشان شهر عسل لا نظير له. ثم تتقمصه، ولم ينفعه سوى ساحر خلصه منها، وأبرأ كلا منهما من حب الآخر. وتنتهي القصة بالزواج من بنت شقيق فاطمة الزهراء عشيقته الأولى وتلد معه، ويعيش سعيدا.

إن القصة (المادة الحكائية) تدور حول ضاري. وإذا كانت قصة زواجه من غزلان وبنت عمه وآني، عاديا وطبيعيا، فإن زواجه من عائشة قنديشة هو (الحكاية) بأبعادها العجائبية المغايرة. ولذلك اعتبر الراوي قصته (حكاية)، وأعطاها عنوان (الجنية). لكن الرواية لا تقف عند حد السرد كما هو الشأن في العديد من الروايات، لأن التقرير، وصيغا أخرى تتصل به، يحضر متداخلا مع السرد، ويتكفل بإعطاء العمل بعدا روائيا خاصا.

4- 2- التقرير:

يحضر التقرير، بصورة كبيرة، في النص لأن الراوي والشخصيات المركزية كلها ذات مستوى معرفي عال وثقافة واسعة.فالراوي باحث في الأنثروبولوجيا، وله اطلاع جيد على الثقافة الإسلامية والأجنبية، وله دراية بالثقافة العامة. كما أن قنديش لم يصبح جنيا مستأنسا إلا بعد تعرفه الدقيق على عالم الإنس، وتطويره معارفه بامتلاك أدوات البحث العلمي. ونقول الشيء عن عائشة قنديشة وزوجته الأمريكية الباحثة الأنثروبولوجية والمشرفة على أطروحته.

كل هذه الشخصيات (المثقفة) تجعل التقرير حاضرا وبقوة في النص. وهو يدور إجمالا حول طرق البحث والأنثروبولوجيا وعوالم السحر والجن والإنس، على شكل أفكار وتمثلات ومواقف وسجالات تتجاذبها الشخصيات فيما بينها، كلما توقف السرد المتصل ب(الحكاية) البؤرة، أو المواد الحكائية المتعلقة بباقي الشخصيات. يتحقق التقرير من خلال الصيغ التالية:

4-2-1- الميتانص: أو التعليق الذي يأتي على هامش سردي، فعندما انتهى الراوي من وداع (فاطمة الزهراء) التي تقمصت شخصيتها قنديشة، يأتي الميتانص ليتحدث لنا الجن، ويقدم لنا آراء كتاب وباحثين عن عائشة قنديشة في الأدبيات المغربية وغيرها.

4-2-2- الرسالة: تحضر الرسالة باعتبارها تقريرا من خلال مناقشة بعض القضايا الفكرية. ويبدو لنا ذلك من خلال رسالتين في الفصلين الحادي والثاني عشر.

4-2-3- المحاورة: تتخذ المحاورة الطابع نفسه، وتأخذ الصور التالية: مفاوضات مع قنديش وقنديشة (الفصل 12)، وأسئلة وأجوبة حول عالم الجن (الفصل)، وقنديش وبحوثه العجيبة (الفصل 15) والحوار غير التقليدي مع الأستاذة المشرفة (الفصل 18)...

إن التقرير من خلال هذه الصيغ يأتي بمثابة (تفكير) أو (تعليق) على ما يتضمنه السرد. لذلك نجد العلاقة بينهما تتحقق على مستويين: نصي، حيث يتم ذلك من خلال التناوب والتداخل، ودلالي، حيث يكون السرد بمثابة النص، ويأخذ التقرير بعد الميتانص النقدي. وبذلك يمكننا الذهاب إلى أن الراوي لم يكتف فقط بتقديم (حكاية)، ولكنه رام إلى جانب ذلك ممارسة عملية (التفكير) فيها. لذلك يمكننا أن نستنتج أن (الجنية) ليست فقط رواية ولكنها أيضاً (ميتارواية) (ماذا سيكون رأي الراوي في هذا التقعير النقدي؟). وليست الميتاروية غير عملية هدم وبناء. إنها ببساطة تجعل الراوي يتجاوز عملية السرد إلى إنجاز عملية التفكير فيه.

لقد أكسب التقرير النص مسحة خاصة، لاسيما وأن الموضوع المتناول في الحكاية (عالم الجن والسحر) يثير الكثير من التصورات والتمثلات المتناقضة. ولقد نجح الروائي في إقامة حوار نقدي بين السرد والتقرير، بكيفية متوازنة، فاستمتع القارئ بسحر الحكاية، كما استمتع بالسجال الفكري حول الظاهرة. فكان الانسجام بين النص والميتانص، بدون إفراط أو تفريط في أي منهما.

5- اللغة:

إن الاهتمام باللغة وجماليتها وصفائها التعبيري ملحوظ بقوة في هذا النص. فلم نجد ما يسوء إلى سلامة اللغة، عكس ما نجد في العديد من الروايات العربية، فكان الاستمتاع بجمال القصة ومتعة القراءة. وتتضافر هذه السمة مع عنصر التشويق على مستوى الحكاية، والإمتاع على مستوى الأفكار المتداولة فيها لتجعلنا أمام نص بذل جهد كبير في صياغته لغوياً وفنياً. ولعل رهافة الحس اللغوي والصفاء الذهني لدى الكاتب لعب دوراً كبيراً في ذلك.

6- كلمة أخيرة:

يبدو لنا ذلك الحس اللغوي في إشارة لطيفة من الراوي وهو يقدم لنا اسمه إلى أن إخوانه يخطئون في كتابة اسمه، محولين إياه من (ض.ض.ض) إلى (ظ.ظ.ظ). ولا عجب في ذلك، فلقد قام ناقد جليل من إخوانه بنشر سلسلة من المقالات بمنشاره النقدي على كتابين لي، وعلى طول المقالات ظل يكتب اسمي: سعيد ياقطين؟ فلا عجب في ذلك.

إن الاهتمام بسلامة التعبير والأسلوب لا يقل إبداعية عن تخيل قصة أو بنائها. ولقد وفق القصيبي في بناء الحكاية ونسج العلاقات بين مختلف أطرافها، كما نجح في تقديم نص عربي سليم، فله منا تحية مغربية خاصة على عنايته باللغة التي تجمعنا، وبمختلف ما يتصل بها، وتوحد بيننا مهما تباعدت المسافات ونأت الديار.

المغرب

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة