Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
بين الإبداع والاجتهاد
عبدالعزيز سعود البابطين

 

لم يسبق لي أن التقيت شخصيًا بالدكتور غازي القصيبي ولكني التقيت به من خلال أعماله الكثيرة التي نشرها وبخاصة دواوينه الشعرية العديدة ومن خلال معرفتي ببعض تفاصيل حياته وسماعي عن بعض أعماله وإنجازاته، وهذا الالتقاء غير المباشر وإن كان لا يروي الغليل فإنه على كل حال قد يبلّ الظمأ.

وأول ما يلفت النظر في هذا الرجل الكبير أنه شخصية جذابة، وهذه الجاذبية التي تحيط به وتجعله مقربًا إلى نفس عارفيه والمطلعين على سيرته ليست جاذبية غرائبية يسعى نحوها من يحاول أن يخرج عن المألوف لكي يخطف الأضواء وليظل حديثًا على أفواه الناس، بل جاذبية تنبع من غنى شخصيته وتوظيف هذا الغنى في الصالح العام، التزم القصيبي بالدراسة من أدنى درجاتها حتى أعلاها، ومارس الوظائف الرسمية مدرسًا جامعيًا وعميدًا ومديرًا لإدارات متعددة وسفيرًا، ثم ارتقى إلى الوزارة أعلى المناصب في الدولة، وتنقل خلال دراسته وعمله في طيف واسع من الدول والمجتمعات من الأحساء إلى البحرين إلى القاهرة إلى الولايات المتحدة وبريطانيا، وأصدر من الكتب ما ينوف على الستين كتابًا تنوعت بين دواوين شعرية ومختارات شعرية وروايات وسيرة ذاتية وكتب سياسية واجتماعية وإدارية، وحرّك بقصائده وكتبه كثيرًا من المياه الراكدة، وخلق حوله عاصفة من المؤيدين والمعارضين، ونال الكثير من الجوائز والتقدير وكذلك النقد والتجريح.

وأمام هذا الكم الكبير من الوقائع والإنجازات لا بد لأي مطلع واع أن يشعر بالاحترام والمودة لهذا الإنسان الذي بنى لنفسه بإرادة حازمة وبجد متواصل وبخبرة باهرة مكانة كبيرة بحيث أصبح شخصية وطنية وقومية ودولية بارزة إن على المستوى الإداري أو الفكري أو السياسي.

وأول ما يلفت النظر في هذه الشخصية هو أنه شخص مبدع، والإبداع يتمثل في قدرته على تحقيق التوافق بين المتناقضات، بين هوايته الشعرية واختصاصه الدراسي القانوني وعمله الدبلوماسي والإداري.

وهو ناجح في كلا الطرفين، نجح في الشعر فأصبح من كبار الشعراء المعاصرين في الوطن العربي، ونجح في دراسته القانونية وفي عمله سفيرًا ومديرًا ووزيرًا وهذا يحتاج من المرء إلى قدرة غير عادية للجمع بين طرفين يبدوان على طرفي نقيض، الشعر الذي تسري فيه حرارة الوجدان. ويندفع مسلحًا بالخيال ليتجاوز العادي والمألوف والطرق المعهودة،والقانون وما فيه من صرامة العقل وبرودة ا لمنطق والمقاييس المحددة، والعمل الدبلوماسي حيث الخطوات والكلمات المثقلة بالقيود والحسابات، وحيث الهدوء المقنن والابتسامات المصطنعة، والعمل الإداري الذي مارسه الشاعر وهو عمل بعيد عن المجال الثقافي من صحة ومياه وكهرباء وسكك حديدية وهي شؤون علمية تعتمد على الأرقام والإحصاءات.

في هذا التوافق بين الهواية والدراسة، بين النزوع والعمل تكمن عبقرية غازي القصيبي وقدرته على توظيف طاقته للصالح العام دون أن يلغي خياله انضباطه العقلي، ودون أن تؤثر حساباته في شطحاته.

وهذه الميزة التي يتمتع بها القصيبي نفتقدها - للأسف - في كثير من مبدعينا الذين يحلقون إلى آفاق شاسعة في عالم الخيال ويعجزون عن السير خطوات في عالم الواقع.

والميزة الثانية للمبدع في المجال المعرفي أنه دائم التعلم فهو ظامئ دائمًا لمعرفة جديدة يكتسبها ولا يدعي مطلقًا الاكتمال والامتلاء، وهذا ما يحرص عليه الدكتور القصيبي: (لا أزال أتعلم في كل يوم).

وهو في المجال الوظيفي لا يتردد في القيام بأي عمل يطلب منه (لصق صور الطلاب على استمارات الامتحانات في بداية عمله الجامعي).

وإذا كان للمبدع غازي القصيبي وجوه متعددة فإن الوجه الأبرز من بينها هو الإبداع الشعري وهو ما جعل اسمه يختزن في قلوب الكثير من محبي الشعر على امتداد الوطن العربي. وإذا كان القصيبي قد أصدر خلال مسيرته الشعرية العديد من الدواوين فإن المحورين الأساسيين الذي تحلقت حولهما قصائده هما الأمة والمرأة. فالأمة العربية معشوقه الأول والمرأة معشوقه الثاني، وقد يتداخل الحبيبان فيتحولان إلى معشوق واحد.

فالدكتور القصيبي منشغل بالهم القومي، يخفق قلبه لأي حدث يلم بإقليمه العربي، ويتحول الجرح في كيان الأمة إلى جرح داخلي في أعماقه، فهو يهتز لبطولة سناء المحيدلي ويعنون أحد دواوينه باسمها، ويعتصره الألم والمرارة أمام منظر استشهاد الطفل محمد الدرة، وتصبح مآسي البلاد العربية فلسطين ولبنان مأساته الخاصة، وإذا كان الشاعر يستفزه انطفاء الكرامة العربية وبلادة الإحساس بالهمّ العام، وانكفاء الضمير الجماعي، فيصرخ بكل قوة منددًا بالمظاهر السلبية في الأمة محاولاً أن ينتشلها من وهدة التحلل والتخثر فإن هذه المرارة اللاذعة لا تصل به إلى درجة اليأس، فما يزال في مصباح الشاعر بعض الزيت، وفي مغالق النفس بعض الأمل، فهو إن كان يشعر بفداحة الهوان الذي تتجرعه الأمة:

(أنا من أمة تخوض وحولاً

من هوان وتزدريها الوحول)

ولكن الأمل يبقى مستنده الأخير:

(تموتين كيف ومنك محمد).

وإذا كانت علاقة الشاعر بأمته تنزف ألمًا فإن علاقته بالمرأة لا تقل ألمًا. إنها الجرح الآخر في خاصرة الشاعر، والمرأة كالأمة مرجعية لا يستغني الشاعر عن الاندغام بها، إذ هي الألق الذي ينير الحياة، والربيع الذي يزهر به الكون، والبهاء الذي لا انطفاء له، ولكن هذا الحلم الرهيف لا يتعامل معه الشاعر إلا في حال أفوله وانكفائه، إنه كالعشاق العظام في تاريخنا تصبح هناءات الحب لديهم ماضيًا وتصبح عذاباته حاضرًا دائمًا، فالوصال والقرب والوئام لحظات سرعان ما تتبدد لتفسح المجال لمسافات شاسعة من الشوق المبرح، والترقب، والسهد، وكأن قدر المحبين أن يظلوا في اشتعال دائم، وأن تبقى كلوم قلوبهم هي النذر الذي يقدمونه على مذبح الحب.

وإذا كنا ونحن نقرأ شعر غازي القصيبي نشعر معه بالمرارة ونتألم لما يثير ألمه فإننا - في الوقت ذاته - تغمرنا بهجة الانطلاق معه وهو يحرر اللغة من عاديتها ومألوفها ويصنع من لبناتها قصورًا ساحرة وعوالم مدهشة، ويجعلنا نؤمن معه بأن الفن الراقي هو تطهير للنفس من كل شوائبها.

وإذ نحيي الشاعر الكبير الدكتور غازي القصيبي الذي أهدانا من أعماق روحه ما أغنى أرواحنا فإنه بمنجزه الإبداعي الرائع يبرهن أن الجزيرة العربية التي أنجبت في غابرها كبار الشعراء ما تزال أرضًا ولودًا تنجب شعراء كبارًا، إنها أرض السحر والشعر كما هي أرض الرسالات السماوية.

الكويت

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة