Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
حاضر في عصر الاغتراب
غسان مطر

 

مربك هذا المفرد المتعدد، من أين تدخل إلى عوالمه وهمومه، وكيف تستطيع مهما جاهدت، أن تصنفه وتحيط بكنوزه. هل تفيه صفة (المثقف العربي) بعض حقه، أما أنها صفة فقدت دلالتها بعدما باتت تُطلق على أي مشتغل بالحرف، أياً يكن مضمون نصه، ومدى تأثير هذا النص في الحياة والمجتمع ومساحات الإبداع. بين الشعر والرواية وعلم الاجتماع والنقد والإصلاح، يحتار الواحد منا ماذا يقطف ويجني وماذا يتجاوز، فالغلال وفيرة والمتعة كبيرة، والمبدع القصيبي قادر وساحر، وشهية موائده كما موائد سلاطين الكلام.

واللافت حقاً أن تتوفر في أدب طاقة غنية بإشعاع موسوعي، كما عند القصيبي، كل ضوء في منارة، وكل نص حدث واكتشاف، في زمن خلت فيه ساحة الثقافة العربية ممن يسدون جوع العقل والروح، ويضيفون إلى قاموس المعرفة حرفاً جديداً.

ويأتي قبل هذا وذاك من عناصر الجذب في نتاج هذا المبدع، أنه مسكون بهم نهضوي تنويري وملتزم قضية الأمة وإنسانها، يضرب بجرأة وقسوة ولا يساوم، ويتحدى أكواماً من المفاهيم العتيقة التي تشل الإنسان العربي وتمنعه من اللحاق بالعصر وآفاقه النضرة.

وإذا كان المثقفون العرب، في غالبيتهم، قد استهواهم التغريب والتبرؤ من تاريخهم وتراثهم وهموم مجتمعاتهم، فإن القصيبي معاند كبير وواع أصيل لم يتلوث ولم يتخل عن جذروه، ولم يتنازل عن دوره كناحت في الصخر بحثاً عن المياه العذبة والإنسان العربي الجديد.

في الشارع الثقافي العربي اليوم، ثمة تهمة جاهزة هي تهمة الأصالة، فكل شاعر لم يتنكر لأصول القصيدة العربية متهم بالتقليد والتبعية، وكل باحث أو روائي أو ناقد لا يتخذ من مفاهيم الغرب مثالاً متهم بالتخلف.

والقصيبي من الذين يفخرون بهذه التهمة ويردون عليها بالنص المتوهج العصري الأصيل تثبيتاً لفهم حضاري للإبداع لا لوثة فيه ولا انحراف.

وإذا كنت أشدد على هذه الميزة في أدب القصيبي، فلأني اعتبرها مفتاحاً من مفاتيح إبداعه والتزامه تاركاً لسواي أن يجول ويصول في الحديث عن اللغة والسرد والصورة والخصائص الفنية الأخرى. إننا نخوض - وعينا أو لم نع - معركة وجود ثقافي، في خضم صراع الأمم لإثبات جدارتها في الحضور والتميّز.

وأنه لمن المهين حقاً أن نرى العمى يصيب النخب في أمتنا فلا ترى الكارثة التي تهددنا إن لم نتصد بوعي لغاياتها وتداعياتها، ولم نفهم أن الملايين العربية، والنفط العربي، والجغرافية الواسعة، والتاريخ الثري كلها مهددة إذا لم تكن لنا ثقافة عربية أصيلة ذات قامة إنسانية شامخة وتوهج إبداعي نابع من داخلنا ومن حضارتنا ومؤهلاتنا. في هذا السياق يأتي القصيبي واحداً من الأقلام السيوف التي تدافع وتناضل وترسّخ في الذهن العربي والعالمي أن إنساننا قادر، بمادته العربية وبحبره العربي، على تجاوز الخطر وتثبيت الحضور المتألق. فمن حيث يريد أو لا يريد ويتعمدُ أو لا يتعمد يبقى القصيبي داعية أصالة. وهنا يكمن سر تميزه. أما سره الثاني فهو انحيازه إلى بساطة الكلام. هنا البيان المتكامل وهنا البدعة الجميلة. بهذه البساطة يأخذك القصيبي إلى فضاءاته دون تعسف ويسقيك من تميز ينابيعه دون إلحاح. وهو بهذا أيضاً معاند للتعقيد الخبيث الذي أصاب الكتابة، شعراً ونثراً، فأوجد هوة سحيقة بين المبدع والقارئ وخلق سوء فهم كبير حول دور الأدب ورسالته. ويبقى غازي القصيبي علامة ثقافية مضيئة، إنه حاضر في عصر الاغتراب الكبير، وهو أصيل في عصر التغرب، وهو متعدد في عصر احتضار الثقافة العربية، وهو حامل مفاتيح الادهاش في عصر الرتابة. ولهذا كله، هو باقٍ لأزمنة طويلة قلماً يُحب وبه يُقتدى.

لبنان

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة