Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
العصفورية
نقد العقل العربي.. أم محاكمته؟!
مكاوي سعيد

 

رواية (العصفورية) للأديب السعودي الكبير غازي عبد الرحمن القصيبي الصادرة عن دار الساقي ببيروت تقع في 303 صفحات من القطع الكبير وتدور أحداثها في مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز الـ20 ساعة داخل مستشفى العصفورية، وهي مستشفى الأمراض العقلية ببيروت، والعصفورية مجرد اصطلاح يؤدي إلى هذا المعنى، كما يقابله في مصر اصطلاح (العباسية) الذي يطلق على المرضى النفسيين الخطيرين نسبة إلى المكان الذي أقيمت به مستشفى الأمراض العقلية بالقاهرة.. وهو اصطلاح يبدو على الأغلب معروفاً في جميع البلدان العربية لارتباطه بمأساة الأديبة اللبنانية (مي زيادة) التي قضت نحبها داخل مستشفى العصفورية وأدمت قلوب محبيها في أربعينيات القرن الماضي.

الرواية تبدأ بمدخل، وتنتهي بمخرج وما بينها حوار طويل بين الطبيب المعالج سمير ثابت والمريض الذي نعرفه - كما يتعامل معه الطبيب - باسم البروفسير، ومنذ البداية ومفتتح الرواية يحيلنا بسهولة وبساطة إلى إدراك أن البروفسور خارج الزمن ويتجلى ذلك من خلال الحوار القصير بين البروفسير والممرض، عندما يبدأ البروفسير في إرسال السؤال تلو السؤال إلى الممرض عن أشخاص كلهم غائبون بفعل الموت ومنهم رؤساء للبنان وليسوا أفراداً عاديين حتى ثم يسأل عن رئيس الجمهورية الحالي، ويعرف أنه إلياس هراوي وأن رئيس الحكومة هو رفيق الحريري..

هذا من المدخل الذي حرص المؤلف على وضعنا عليه في بداية روايته، وكأنما حرص بذلك على أن يأخذ بأيدينا ونحن نعبر أول عتباته. ليقول لنا إن بطله خارج الزمن، وأنه محتجز داخل جناح بالعصفورية. أما المخرج الموجود في نهاية الرواية فلا يعدو كونه أكثر من مفارقة، (وسوف نتحدث عنه فيما بعد).

ثم تبدأ الأحداث بدخول الطبيب سمير ثابت والجلوس مع البروفسور تمهيداً لجلسة علاجية، يسأل البروفسور عن كيفية موت كميل شمعون ثم يحكي كيف كانا أصدقاء ؟! وكيف اصطادا معاً النمور من البقاع والتماسيح من نهر دجلة والبط من جنوب إفريقيا، وهذا بالإضافة إلى تداعيات أخرى في بداية الرواية تؤكد صداقة البروفسور لعظماء من الشرق والغرب ومعاملته لهم الند بالند يضيف إلى ما جاء في مدخل الرواية ويؤكد أننا أمام شخص معتل نفسياً لدرجة ربما تصل إلى الجنون. وبالتالي فإن قبولنا لما يحكيه فيما بعد، يعد قبولاً موضوعياً باعتباره كلام مجانين.. لكننا سوف نكتشف كلما توغلنا في صفحات الرواية، أن المؤلف قام بخداعنا أو أوحى لنا بذلك ثم سوف ندرك أن البروفسور ليس شخصاً بقدر ما هو فكرة مجردة.

بهذا البناء السهل والبسيط الذي اختاره الكاتب أسلوباً لروايته، والذي لا يتجاوز حدود الحوار بين الطبيب والبروفسور طوال الرواية. باستثناءات بسيطة جداً توضح رد الفعل بين أحدهما والآخر.. لا يعتمد المؤلف على أي أسلوبية أخرى، وكأنه تعمد اختيار هذا الشكل (الفريم) ليخبرنا أنه ليس مهموماً - في هذه الرواية بالتحديد - بأية مفاهيم أو تطورات لها علاقة بآليات السرد وعلاقاته، وكذلك فنون البناء وألاعيب الروائيين، ولا يهمه موقع الرواية - أدبياً - من أفكار كالحداثة وما بعدها. بل أنه يسخر بشدة من هذه الأساليب داخل روايته - ليس دفاعاً عن اختياره لهذا الشكل البسيط في الكتابة، ولكن ليقول إنه لا يلجأ هنا لتعقيد الأمور، وليست هذه الرواية بالذات هي مجالها، وإنني - المؤلف - كنت استطيع فعل ذلك كله - لكنني فعلاً لم أرغب في ذلك ولم أشأ ؟ وبهذه الرغبة استطاع غازي القصيبي ابتكار أسلوب كتابي خاص به أثرى الرواية وقربها من المتلقي وساعد في وصول فكرته بلا زخرفات ولا حيل بلاغية.

تبدأ الرواية المعتمدة في بنائها الرئيسي على الحوار وعلى فكرة التصنيف وهي الفكرة الأعمق والمحور الذي تتداعى من حوله وعليه باقي الأفكار. من خلال فكرة تقسيم ثقافي على مستويين؛ الأول ثقافة أبناء فرويد من المثقفين والمتعلمين وفي المقابل فكرة (عقدة الخواجة) التي نعاني منها جميعاً كشعوب عربية ويضرب المؤلف أمثلة على ذلك بداية بالخديوي إسماعيل ومروراً برفاعه الطهطاوي والعقاد وطه حسين.. ولا يحكي ذلك على لسان البروفسور باعتباره رأياً فقط، وإنما باعتباره تجربة، فقد كان صديقاً لهم وسوف يكون صديقاً وسميراً لكل من يقابلهم من الشرق والغرب وسيظل يحكي عنهم ويسرد عنهم أساطيرهم في طول وعرض الرواية مرتكزاً على شخصية تاريخية لا يفتأ بذكرها وينتهي منها حتى يعود إليها وهي شخصية الشاعر الكبير المتنبي، وعلى فترات متفاوتة داخل الرواية - ولاحظ دلالة استعانته بالمتبنى وهو المعروف بشكواه الدائمة والساخرة من رجال عصره وأحوال الناس فيه - والبروفسور يقفز مع شخصياته القريبة، وهو يحكي للطبيب مغامراته، مضمناً ذلك سخرية لاذعة من أفكارهم وما يتعلق بشخصياتهم من حكايات وعواطف... فيتعرض لحكاية العقاد مع مي زيادة ثم وقوعه في حب سارة، وكراهيته للون الأحمر، واعتباره كل من يرتدي رابطة عنق حمراء هو بالتأكيد شيوعياً وأنه - البروفسور - دخل على العقاد يوماً وهو مرتدياً الرابطة الحمراء فطلب منه العقاد أن يخلعها، لكنه أخبره أن (الكرافته) هدية من الممثلة كاميليا، وكان العقاد يحبها، فطرده العقاد قائلاً: أخرج يا عدو الله: عليك اللعنة، ويبالغ البروفسور في السخرية عندما يختتم هذه الفقرة بقوله إن الجملتين مسجلتان في الشهر العقاري باسم يوسف بك وهبي، ولا يجوز لغيره استعمالهما. ثم يكمل حكايته بحكاياته عن مي التي دخلت نفسي المستشفى (العصفورية) متهمة بالجنون، ولأنها هي أيضاً تعاني من عقدة الخواجة فقد أحبت جبران خليل جبران.. وعندما يخبره الطبيب بأن جبران لبناني يجيبه البروفسور بأنه لبناني ونص. لكنه تخوجن.

بهذه الروح الساخرة والتي لا يبدو أنه تتخذ موقفاً مع أو ضد، ينتقل المؤلف على لسان البروفسور بين العديد والعديد من الشخصيات والأزمنة والقضايا بحرية تامة. ومهما كانت الشخصية أو زمنها، فإن البروفسور يقترب منها ويحكي تجربته معها، فهو شخص استطاع أن يصاحب ويصادق كل ما يريد، وأن يتجول بين الأزمنة بالإضافة إلى تجربته الحياتية التي ظل البروفسور يحكيها عبر الأحداث دون إضطراد. ومن خلال ذلك أورد المؤلف العشرات من الشخصيات السياسية والفكرية مثل أنور السادات وأرنست همنجواي وجمال عبد الناصر وتوفيق الحكيم والمنفلوطي وجيمس جويس - والقائمة طويلة طويلة، أكثر مما نستطيع ذكرها، فالمؤلف يتجادل عبر البروفسور مع الشخصيات والأفكار والمواقف، ويسخر منه ذلك بعيون طفل لا يسهل خداعه، وفي لحظة بعينها يستحضر المتبنى، كأنه سنده الوحيد في مواجهة الجميع.. غير أن المتبنى نفسه لا يسلم من سخريته.

وهناك بعد مهم داخل هذه الرواية المهمة وفيه يحكي البروفسور تجربته مع المصحات العالمية التي دخلها، ثم علاقته بالحياة وتجاربه في تحصيل العلم والمال والثروة، إنه وبشكل تلقائي - يود أن يضعنا جميعاً داخل روايته، فما من تجربة يمكن أن يكون خاضها أحد إلا ووجدها داخل الرواية، أو وجد شبيها لها.. فمن منا لم يحلم بالتعلم في أفضل جامعات العالم في أوروبا أو داخل أمريكا، ومن منا لم يمارس نزق الصبا وبداية التعرف على العالم من خلال الأنثى، ومن منا لم يكذب في حكي تجاربه عن ذلك، ومن منا لم يحاول تكوين ثروة بأي شكل من الأشكال، لكن البروفسور يتجاوز ذلك بتجربة مع الحب والحياة، ومع تحضير أرواحنا جميعاً ليضعنا أمام أنفسنا، فربما ندرك ما كنا عليه من حضارة وثقافة وما آلت إليه الأمور من طرق تفكيرنا المتخلف. ليصل في هذه المواجهة إلى حدود علاقتنا ومفاهيمنا عن العدو وما آلت إليه أمورنا في علاقتنا به. كل هذا يحدث من خلاله هو. فهو من قابل كل الشخصيات، وقرأ كل الكتب، وعاش في كل العصور. يعرض المؤلف ذلك بروح ساخرة أخاذة لتصل أحيانا إلى حد الفانتازيا، عندما يخبر الطبيب بأنه حصل على درجة الدكتوراه - وهي واحدة من شهادات لا نهاية لها حصل عليها - في الفقه من جامعة طومبكطاء وكيف أنها كانت جامعة ناشئة، ولم يكن يدرس بها أحد غيره، وكانت الجامعة تمنح الدكتوراه في جميع المجالات، وكان هو رئيس القسم. لذا فقد ارتدى قبعتين منفصلتين؛ قبعة رئيس قسم الفقه، وقبعة طالب الدكتوراه. ثم يؤكد البروفسور على الطبيب قائلاً: صدقني إنها كانت دكتوراه نزيهة جداً

كذلك لا تخلو رواية (العصفورية) من التضمين السياسي اللاذع للسفه العربي الذي أرجعنا إلى الخلف مئات السنين. فهو يسخر من (الخليجعربستانيون) الذين يرون في لندن مربط خيلهم والمناضلون الذين يرون في لندن فضاءً مفتوحاً دون رقابة أو، مراقبين، وعن دولة عربستان التي هي خارج التاريخ والتي تعيش على وهم تدمير إسرائيل بينما حكامها القادة الثوريين هدفهم الرئيسي حلب ضرع عربستان ثم تدميرها قبل المساس بقشة واحدة من إسرائيل.. ثم يحدثنا المؤلف عن الثورات والثورات المضادة ووسائل التمويل ومحصلة كل هذا قبض ريح.. والرمز بالرواية واضح وصريح بل إنه يكاد يكون محاكاة للواقع العربي المر الأليم.. وسخرية الكاتب اللاذعة تكاد تجلدنا بمرارتها الشبيهة بالكوميديا السوداء، الذي يكان يكون واقعنا الآن أشد تهكما منها.. خذ مثلا عندما يتخذ من الحجاج (ديكتاتوره المفضل) على حد قوله مثلاً ويقدم لنا وصلة طريفة في مدح الدكتاتورية.. أو عندما يتحدث عن سارة حبيبته الأمريكية سليلة العبيد المحررين.. كيف أحبها وتعلق بها وعشقها من طرف واحد !.. ليخرج منها وينتقل بنا إلى الإشارة إلى رواية سومرست موم الشهيرة (عن العبودية البشرية" المليئة بوصف بديع لمعاناة العاشق من طرف واحد.

ولن نترك هذه الرواية دون المرور على (سوزان شيلنج) الشهيرة بسوزي وقصة تعرف البروفسور عليها، وتطور هذه العلاقة حتى ظروف موتها المأسوي بعد مشادة مع البروفسور عندما اكتشف أنها يهودية ولم تخبره بذلك من قبل.. فقادت سيارتها هرباً منه إلى حتفها.. وبين اتهام والدها له بقتلها، والتردي المرضى للبروفسور بداية من تلك الحادثة، حتى اختلطت به وبنا الوقائع، فمرة هي جاسوسة، ومرة هي محبة ظلمها البروفسور لأنه لم يسألها من قبل عن ديانتها..

وهكذا تنتقل بنا الرواية بين الواقع والخيال والعالم الافتراضي وعالم الجن والأساطير والكائنات الفضائية بمهارة فائقة تجعلك لا تستطيع إفلات صفحة من الرواية دون قراءتها بالكامل..

إنها رواية جميلة وفاتنة تعكس ثقافية موسوعية للمؤلف، وأقول موسوعية ولا أقول معلوماتية، لأن ما ورد بداخل الرواية من أشخاص وقضايا وأزمنة، لم يرد على سبيل الاستدعاء المعلومات، وإنما ورد ضمن منظومة تدفقت فيها ثقافة المؤلف وكأنه يأخذ من معين لا ينضب.. وبعد 20 ساعة من المتعة يهرب البروفسور إلى عوالمه الأخرى بعد أن يتركها حائرين مع أسئلته التي حاكمت عقلنا العربي وواقعنا الملتبس وماضينا التليد ومستقبلنا المبهم.

مصر

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة