Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
إنّي قرأت أحد عشر بيتا...
قراءة في قصيدة (ضرب من العشق)
د. محمّد البدوي

 

غازي القصيبي، علم في الشعر العربي الحديث لا يحتاج إلى شهادة تجيزه شعرا، فالمجموعات الكثيرة، والتجربة الثرية المتواصلة، تجعله في واجهة المشهد الشعري المعاصر. ويكفي أن نأخذ أيّ مجموعة أو قصيدة لندرك من خلالها جمال الصنعة وقوة الموهبة وحلاوة الصورة.

وفي هذا الإطار تشدّني قصيدة لم تبرح خيالي منذ قراءتي لها أوّل صدورها في مجلّة (الفيصل)(1) وهي (ضرب من العشق)، قالها الشاعر بمناسبة تدشين جسر الملك فهد الذي يربط السعودية بالبحرين.

قد تبدو مناسبة القصيدة في أوّل وهلة سياسية، أو ظرفية، لكن حين ننظر في عظمة الإنجاز، وجمال المعمار وأهميته الاقتصادية والحضارية ندرك جدارة أن يكون هذا الإنجاز المعماري مقترنا بنصّ شعري خالد. وجاءت قصيدة غازي القصيبي (ضرب من العشق) ضربا من السحر الفنّي حمل تمجيدا للّحظة والحدث وتضمينا للمشاغل التي تسكنه ويشترك معه فيها قرّاء شعره.

فاتحة القصيدة:

جاءت القصيدة في أحد عشر بيتا صاغها الشاعر على بحر البسيط جاعلا من حرف الراء رويّا لها، وهو حرف حنكيّ متكرّر يحوّل تواتُرُه القصيدة إلى زغرودة فرح. وهذا التواتر لم يقف عند الرويّ بل شمل مختلف الأبيات منطلقا من البيت الأوّل:

ضرب من العشق لا درب من الحجر

هذا الذي طار بالواحات للجزر

ويتواصل الإيقاع الراقص الطرِبُ من خلال تواتر (الراء) أربعا وثلاثين مرّة في مجمل الأبيات، مترجما نشوة الشاعر بالحدث.

وهذه النشوة لم تسجن القصيدة في أدب المناسبات الذي عادة ما يخبو نوره بانتهاء المناسبة، بل سَما بها إلى الحديث في لغة عاشقة عن الأحاسيس والأشواق فجعلها تنتصر على منطق الحجر والأسفلت.) ضرب من العشق لا درب من الحجر...)

وهذه الإشارة إلى (الجسر) هي الإشارة اليتيمة في القصيدة كلّها، ليتحوّل بدوره إلى ضمير مستتر مع الفعلين (طار بالواحات...) و(ساق الخيام...)

ويقدّم البديع خير خدمة للشاعر من خلال الجناس بين (ضرب) و(درب) فينتصر العشق على الحجر من خلال عمليّة التقديم والتأخير، فيتصدّر (العشق) البيت بل القصيدة عنوانا، ويسيطر على لغتها ومعجمها (الخفر - السمر - القمر- زائرتي- هِمتُ بها - العين - الحور- يقرّبنا...)

ولئن غلبت المقابلات بين الصحراء والبحر على جانب كبير من الأبيات، فإنّ معجم البحر والماء غلب على البيت الثاني (الشطآن - انزلقت - المياه - شراعا -) وتحوّلت الخيام إلى أشرعة بيضاء تمخر مياه الخليج، تعبيرا ضمنيا عن وجود الشاعر في ضيافة البحر بمناسبة موضوع القصيدة.

أحلام اليقظة تتحقق:

بعد أن وصف الشاعر الرحلة ومسارها من الرمال إلى المياه، وجد نفسه أمام مشهد غير مألوف، دفعه إلى التساؤل عن حقيقة هذا المشهد: (ماذا أرى؟)

إنّه مشهد يفوق الخيال.. ما كان يخطر على بال الشاعر، لذا كان وجه العجب من مشهد هذا الجسر الطويل الممتدّ بين السعودية والبحرين... جسر رأى فيه غازي القصيبي وحدة بين حضارتين، الأولى صحراوية والثانية بحرية. فأغنيات الغوص وأصوات الحداء متشابهة يصعب على الشاعر التمييز بينها، والنخل صار مطوّقا بالأصداف والدرر.

وهذه أغنيات الغوص في أذني؟

أم الحداة شدوا بالشعر في السحر

واستيقظت نخلة وسنى توشوشني

من طوّق النخل بالأصداف والدرر؟

إنّ هذا المشهد ينفي المسافات القائمة، ويستبق الأحداث حتّى تكون الرغبة الكامنة في نفس الشاعر لتحقيق وحدة الكثبان والشطآن حقيقة لا خيالا.

وهذه الصور الشعرية نسفت حدود الجغرافيا، فاجتمعت لدى الشاعر في مكان واحد جلّ مدن السعودية والخليج (الرياض- المنامة- جدّة - المحرّق - مسقط- الدوحة- الكويت - العين) واستوت لديه مختلف المدن دون مفاضلة (بدو وبحّارة ..ما الفرق بينهما؟) فوقع في شرك التغزّل بها جميعا:

- مسقط السمراء زائرتي

- المحرّق جاءتنا مع القمر

- الكويت التي همت بها

- العين وكم في العين من حور ... إلخ

مع الإشارة إلى أنّ الشاعر غيّب الجانب السياسي، فانتفت الأقطار وراياتها، وحضرت المدن بأسمائها، لكأنّها مدن عديدة لوطن واحد، قد يختلف مثلما يراد له ذلك، لكنّه ينتسب بكل مقوماته البرية والبحرية إلى جدّ واحد عربي صميم هو (مضر) .

إنّ هذه القصيدة حافلة بالتقابل بين معجمين مختلفين معجم الصحراء ومعجم البحر ولكنّه ليس تقابل تنافر بقدر ما هو تكامل بين القطبين، يجدان في الجسر الجديد مجالا للتواصل وتحقيق الغايات الفردية والجماعية.

وانطلق الشاعر من جمل شعرية خبرية سرعان ما تحوّلت إلى أسلوب إنشائي مسكون بالسؤال والحيرة ثمّ انساق مع الغنائية منطلقا من ذاته وشهادته على الحدث: (ماذا أرى؟/ أغنيات الغوص في أذني/ نخلة وسنى توشوشني / نسيت أين أنا / مسقط السمراء زائرتي / حيَّت فهمتُ بها) وتتحوّل هذه الغنائية في لحظة، فينسحب ضمير المتكلم المفرد ويذوب في المجموعة، وتصبح القضيّة الجماعية هي البارزة، وهي التي ينغلق عليها النصّ الشعري سؤالا محيّرا، دافعا إلى يكون العمل السياسي محققا حلم الشاعر والجميع، كما حدث مع هذا الجسر: إنّ حبال الله تربطنا / هل يقرّبنا خيط من البشر؟

إيقاع القصيدة:

إنّ هذه القصيدة تدلّ على صنعة كبيرة وقدرة الشاعر غازي القصيبي على التصرّف في كيمياء الشعر بمضامينه وأساليبه. وقد جاءت الأبيات على بحر البسيط، وفيه مراوحة بين التفعيلتين (مستفعلن) و(فاعلن) وبين الصدر والعجز. والمدّ والجزر يلتقيان مع رغبة الشاعر في التعبير عن المراوحة بين حضارة الرمال والصحراء من جهة وحضارة البحر والجزر من جهة ثانية، فكانت الأداة (أمْ) همزة وصل بين القطبين تواترت سبع مرّات لتكون في الظاهر فصلا وهي في الواقع وصل بين الشطآن والكثبان.

وهذه القصيدة غنائية تحمل طرب الشاعر بالحدث وتعبّر عن نشوته. وجاء الإيقاع مترجما في معجمه وإيقاعه هذا الطرب.

فمفردات الغناء متواترة (أغنيات - الحداة - شدوا - توشوشني...) أمّا الأصوات الطاغية على الأبيات ففيها فرحة ونشوة. فبالإضافة إلى حرف (الراء) وما يحدثه من طرب نجد حرفين يتواتران بكثرة هما (الميم) و(النّون) وهما حرفان خيشوميان يحدثان غُنّة فيها طرب. فصوت الميم تواتر 38 مرّة، وصوت النّون تواتر45 مرّة (حرفا وتنوينا) وهذا الإلحاح العفويّ على هذه الغنّة يترجم رغبة الشاعر في الغناء والترنّم بما تمّ إنجازه من عمل يحقّق الرغبة في التواصل الفعلي بين مختلف المدن والأقطار.

ويمكن أن نظيف إلى هذين الصوتين حرف (اللام) الذي تواتر 40 مرّة مساهما في صياغة إيقاع مميّز لهذه الأبيات. أليس الذي يريد أن يتدرّب على الغناء يقوم بترديد حرف اللام مفتوحا، لما فيه من خصائص صوتية، وانسياب، ينسجم مع المائية والليونة التي تمثّلها شطآن الخليج.

إنّ هذه القصيدة بأصواتها هذه، وغيرها مثل حروف الصفير (السين: 13 مرّة، والزاي 4 مرّات، والصاد مرتين، والمجموع 19 حرفا صفيريا) تتحوّل إلى سنفونية عذبة تعزفها قريحة الشاعر يحدو بها مسيرة البناء في بلاده، آملا في أن يساهم مثل هذا البناء في تحقيق حلم الوحدة بين أفراد الأمّة الواحدة.

وتسكن جملة من نقاط الاستفهام هذه القصيدة ملتحمة بأواخر الصدور والأعجاز، وجاءت لتعبّر عن البهتة التي سكنت شاعرنا، وهي بهتة المعجب بما تمّ إنجازه، وبالحلم الذي صار حقيقة لا وهما وخيالا... ويبلغ الاستفهام مداه، والحيرة أقصاها، حين يقارن الشاعر بين عناصر الوحدة وعناصر الفرقة، ليخرج بصيحة، سَداها استفهام إنكاري يضمّنه صرخة مكتومة ونقمة على واقع غريب، تشاء فيه (حبال الله) أن (تربط) بين النّاس، ويشاء النّاس الفرقة لذا يصبح حلم الشاعر أن يجد (خيطا بشريّا يقرّب) .

خليج .. إنّ حبال الله تربطنا

فهل يقرّبنا خيط من البشر

وتكمن بلاغة هذا البيت الشعري في:

- نفي كلّ المسافة بين الشاعر وبين الخليج لذا غابت حروف النداء. والخطاب بهذا الشكل لا يكون إلاّ مع القريب في المكان وإلى القلب.

- التقابل التامّ بين كلّ الوحدات اللغوية: حبال / خيط - الله / البشر- تربط/يقرّب.

- التقابل بين الأسلوب الخبري في الصدر والأسلوب الإنشائي في العجز.

إنّ شاعرنا يأمل في أن يكون مثل هذا الجسر خيطا نسجته يد الإنسان للتقريب بين الأفراد والأقطار.

إذا كان على المهندسين أن يخطّطوا لمثل هذه المشاريع، وعلى السياسيين أن يقوموا بتشجيعها وتمويلها، فإنّ وظيفة الشاعر أن يكون حاديا لهذه المسيرة بما هي جديرة به من إبداع فنّي، ومبشّرا بآفاق جديدة. ولقد كانت قصيدة الشاعر غازي القصيبي في حجم هذا الإنجاز.

وإذا كنّا نرجو لمثل هذه الجسور أن تتكاثر وتتوزع في المكان وتكون قادرة على مقاومة الآفات والزمن فإنّ الصنعة الشعرية التي ميّزت هذه الأبيات تجعلنا نقول: طوبى للشاعر غازي القصيبي لثلاث:

- لأنّ السياسة لم تحرمه من أن يكون شاعرا كبيرا.

- لأنّ الشعر لم يمنعه من أن يكون ملتزما باختيارات وطنه، فكان في كلّ المواقع السياسية والديبلوماسية مناضلا بحقّ.

- لأنّ قصيدته هذه ستعمّر أكثر من كلّ الجسور، فهو صاغها من مواد لا يستطيع أن يأتي عليها الزمن، فيها من التخييل والصنعة الشعرية والموسيقى التي تأسر القلوب والعقول، وهي كلّها إبداع فنّي يتجاوز الزمان والمكان. لأنّ الشاعر بني في عقول قرائه وأذهانهم أحد عشر بيتا، هي جسر آخر مختلف عن الأوّل لأنّه (ضرب من العشق، لا درب من الحجر).

1 مجلّة الفيصل كانون الثاني (يناير) 1987 وصدرت القصيدة في المدّة الأخيرة في كتاب صدر عن (المجلّة العربية)

تونس

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة