Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
رحلة في مداراته
د. أحمد عبد الملك

 

يَحارُ المرءُ عندما يدخلُ بيوتَ الآخرين! فهو حَذرٌ في طريقة السلام، وشكل الكلام، وأيضاً جمال الهندام!؟ فكيف سيكون عليه الحالُ عندما يتورط أحدهُم في الدخول إلى مدارات الدكتور غازي عبدالرحمن القصيبي!؟ فهذا الرجل عملاقُ فكرياً، وبالطبع فهو عندَ وقوفه مع الآخرين ينتصبُ عملاقاً فيزيائياً.. وبذلك حَظِيَ بالحُسنّيين.

عالمُ غازي القصيبي متماوجٌ مع الإنسان، ومتداخلٌ مع الزمان والمكان، واحتكاكاتُ أفلاكهِ تُطلقُُ - بين الحين والآخر- نيازكَ في سماءِ مُجتمعهِ وفي فضاءاتِ الأدب عموماً.

أبوابٌ مُشرَّعة كثيرة لا تعرفُ من أيُها تدخلُ إلى تلك المدارات المُدهشة!؟ فمن (حياة في الإدارة) ذاك العالم الغريب المُشاكس مروراً ب(شقة الحرية) في زمن المدِّ العروبي ورائحة الثورات عام 1956 دخولاً إلى (حديقة الغروب) التي دخلها غازي القصيبي وقد ترك وراءَ ظهره خمسة وستين عاماً، بكل ما فيها من حب وأحقاد، ونجاحات وإخفاقات؛ تفاجئُكَ في هذه الحديقة أولى الاشجار المُعاندة.. وقد نقشَ عليها:

خمسٌ وستون.. في أجفان إعصارِ

أما سئمتَ ارتحالاً أيها الساري؟!

أما مللتَ من الأسفار.. ما هدأتَ

إلا وألقتكَ في وعثاءِ أسفارِ

أما تعبتَ من الأعداءِ..ما برحوا

يحاربونكَ بالكبريتِ.. والنارِِ

تحفظ هذه الشجرة ودَّ غازي القصيبي للصِحاب.. وتمسُكهُ بحبال الود لمن بقوا في الدنيا ومن رحلوا.. تقول شهادةٌ على جذع الشجرة في وداع صديقه النبيل الدكتور محسون جلال:

على قمة ٍ ترنو إلى البحر.. ترقُدُ

كأنكَ صقرٌ حيث حلّقَ يُلحدُ

تخيّرتَ للنوم الأخير وسادةً

من الغيم تستدني النجومَ فتصعدُ

سَموتَ وأنسامُ الحياة رطيبة ٌ

وتسمو وإعصارُ المنونِ يُعربدُ

وعلى الشارع الموحش المؤدي إلى الحديقة، تقف أمامك (الجنّية) يُسائلها غازي القصيبي:

أيّتها الجنية.. هل أنتِ الحرية؟

أيّتها الحرية.. هل أنت جنّية؟

وفي ذلك الاستهلال معان ٍ عميقةٌ للأبعاد الخطيرة للحرية في العالم العربي؛ حيث تدخل إلى متاهات (ضاوي ضرغام) النجدي الذي نزحت عائلتهُ إلى الإحساء.. وتبدأ الرحلة إلى المغرب حيث لقاء الجنّية!. وتداخُلِ الأحداثِ بين عائشة وأمة الله وفاطمة الزهراء وغزلان. ويَحار الراوي في لغة العيون بين زوجته غزلان وابنيهما مشعل ومشاعل؛ التي تشبهُ تفاهمَ القِطط في الظلام. وهو تعبيرٌ ملفتٌ للزمان والمكان.

وتمضي في مدارات غازي القصيبي حيث يقفُ أمام احدى بوابات الدهشة (سحيم) عبد بني الحسحاس الذي أحرقته القبيلة لتعرّضه لنساء القبيلة شعراً! وعلى ظهر (سحيم) ينقشُ غازي القصيبي ملاحمَ الوجع الذي طال سحيماً؛ كي يحرره من العبودية.. ويُطلقُ رائحة العبودية التي عاشها هذا الرجل من قواريرها، لنجد سحيما يدافع عن نفسه:

وهم يَحسبون الجميلات يّنفرنَ مني.

لأني عبدٌ.. غرابٌ شديدُ السواد.

ولا يعرفون دهاءَ السوادِ الذي يتحول

عند لقاء الجميلات حبلاً.. يشد الجميلاتِ نحوي.

ولا أستطيع فكاكاً

أنا العبدُ ياأمُّ! عبدُ الجميلاتِ!

يفاجئُكَ الرقم (7) في إحدى المدارات الشاسعة. حيث سبعة رجال يوافقون على المجيء إلى جزيرة (ميدوسا) ولكل منهم عالمه وشجونه. أولُ البوابه في (عربستان X) يقابلكَ (شحته كنفان أبو القسايم فلفل) الشاعر ورئيس التحرير، لتجد صورة البقرة - زوجة السارد في أول الصفحة. وتبدأ أيام الأسبوع حبلى بالمفاجآت والمواقف. وتقف مع السارد يوم الأحد لتسمعه يقول:

(لا أدري لماذا طلبَ السيد وكيل الوزراة مقابلتي هذا الصباح! ليحدثني عن لقاء الحمراء؟ أم أن هناك محاولة جديدة لإزاحتي من (النفس الشعري الجديد)؟ لم يكف الوشاةُ والحُسادُ عن المحاولة.. أبناء الحرام يريدون شاعراً مُحنّطاً.. شاعراً يكتب كلاماً مفهوماً.. شاعراً يبولُ في الأطلال مع ناقته التي تبول؛ وهو يبكي. ويطلب من كل الناس أن يقفوا ليبكوا معه.. ويبولوا إن أمْكنَ، لتبتل الأرض بالماء! يريدون شاعراً يصفُ الغزالَ والشاةَ والذئب. أبناءُ الحرام هؤلاء لا يفهمون شيئاً في الشعر. والسيد وكيل الوزارة؛ بدورهِ، لا يفهم شيئاً في الشعر)!

قد تكون تلك رسالة مختصرة عن أوضاعنا في العالم العربي! فما (عربستان X) إلا نموذجاً مُصغّراً لهذا العالم المريض. فكم من وكيل أو وزير لا يعرف من مهام عمله شيئاً، وكم من الجهلاء أتت بهم (القبيلة) والحظوة كي يحاربوا المؤهلين والمثقفين، وكم تحَلقَ هؤلاء حول الحاكم ونصبوا حولهُ الشرانق التي تمنعُ وصولَ المخلصين الساعين لتطوير مجتمعاتهم. وكم زوروا من البهتان ضد المخلصين حتى ضاق بهم الصدر وقلبوا لهم ظهرَ المِجن!

مواطن آخر من (عربستان X) هو جمال الدين مرسي الشافعي الشهير بفيلسوف باشا. وهو عميد كلية الآداب وأستاذ كرسي الفلسفة بجامعة الشروق. وثروته تُقدر بثلاثة ملايين ونصف دولار! ونتعرف على حياة الفيلسوف في إدارته للكلية واصطدامه مع المدرسين، وبوجويسم والحاج بشمان وجلنار وغيرهم.

وتتوالى الأسماء في (عربستان X) من الصحفي مسعود سعادة نور أسعد، إلى أنور مخايل مختارجي الطبيب النفساني، إلى الفلكي الروحاني بصراوي علون معروف. ولكل من الشخوص أجندة أسبوعية من الإثنين وحتى الأحد.

تخرج من البوابة الضخمة (7) التي تعني السبعة رجال في الجزيرة الصغيرة (ميدوسا) لتواجهك (سلمى) مديرة المخابرات في عهد جمال عبدالناصر.. وتنقل إليك حوارها مع عبدالناصر عن مؤامرة ضده من قبل الاتحاد السوفيتي، وتسريب هذا الأخير معلومات عن حشود اسرائيلية على حدود سوريا، وأن هجوماً اسرائلياً وشيكاً! يرفض عبدالناصر استدراجه نحو المعركة.

لكن 5 يونيو لم يحمل الأخبار السارة، رغمَ صوتِ العرب المُجلجل الذي خدعَ العربَ كلهم وليسَ المصريين فحسب! تأخذنا (سلمى) إلى أيام (المُستعصِم) ورسالة (هولاكو) التي يعرضُ عليه فيها التحالفَ لضرب الفرقة الباطنية! حيث تقوم (سلمى) بعكس ما أراده (هولاكو) وتجمع قواتِ الخليفة وتهزم التتار. كما تأخذك (سلمى) إلى تحرير (القدس) على يد صلاح الدين الأيوبي، عبر أصابع العجوز التي تعبثُ بمؤشر الراديو القديم. حيث تجد نفسكَ في أتون معركة (حطين)؛ وتخرج منها إلى ليلة من ليالي أم كلثوم حيث حفل أحمد شوقي في (كرمة إبن هانئ)؛ وايضا تجد (سلمى) حاضرة ولها علاقة غريبة مع أحمد شوقي الذي تتحدث معه في الشعر، أما عندما تجتمع مع (محمد عبدالوهاب) فتتحدث معه عن الفن!

أصابعُ العجوز تعبثُ في مؤشر الراديو فتأخذك إلى الغارات الجوية الإسرائيلية على (غزة) وسقوط عشرة أشخاص وجرح أكثر من 150 معظمهم من الأطفال والنساء. وهنا تقف (سلمى) في زي نقيب في قوة الدفاع الإسرائيلية ويحاورها رئيس الوزراء (شارون) السفاح، حيث تطلبُ معانقته ويوافق؛ فتقترب منه وتفجّر نفسَها عند التحامها به، فيتناثر جسدُ السفاح في الهواء مع أشلائها.

لا يكف غازي القصيبي عن محاكاة واقعه بأسلوبه الجميل. ولا يكف عن تصوير نماذج بشرية تخرج له من المجهول وتضايقه في كثير من الأحيان. وذات يوم قادته الصُدف إلى (بوشلاخ البرمائي). حيث نجد أدباً ساخراً يتناول كذب (أبوشلاخ) وحكاياته الخارقة البعيدة عن الواقع. مع (أبولمياء) بدءاً من ضرع العنز؛ مروراً بالخادمات الفلبينيات، وحتى خط التابلاين، ومكالمة (روزفلت)، وحتى مذيعة (إلبسي)؟! أحداث مثيرة فيها العديد من الإسقاطات على واقع الحال في العالم العربي وعالم غازي القصيبي المدهش.

في مَجرّةِ الشعر تجدُ أمامكَ (عقد من الحجارة) و(الإلمام بغزل الفقهاء الأعلام) و(قراة في وجه لندن) و(بيت) و(قصيدة الأشج) و(للشهداء) و(الخليج يتحدث شعراً ونثراً) و تشم عبق الحياة من (ورود على ضفائر سناء).. ونسمع:

كَقطرةٍ من مَطرِ

تحَدَّري.. تحدََّري

استرسلي ناعمةً

شهيةً كالخّدَرِ

وأشعريني أنني

الطفلُ الذي لم يَكبُرِ

يغفو على صدركِ

نومَ اللحنِ فوقَ المِزهَرِ

وضمّدي الجُرحّ الذي

عُدتُ به من سفري

وتتضمن تلك الورود لوناً اسوداً يسترسل فيه غازي القصيبي في نعي من رحلوا من أصدقائه. يقول في رثاء صديقه محمد الماجد رحمه الله:

كالعادة..

نحن الآن تذّكرناكْ

بعد سنين

اتفقنا فيها أن ننساكْ

ونحن نراكْ!

كالعادة..

أحرقنا الشمعَ.. سكبنا الدمعَ..

على مثواك.

فكأنك كنت الطفلَ الضائعَ

واليومَ وجدناك ْ

تفاجئُكَ (الاسطورة)، حيث حياة الأميرة الراحلة (ديانا) وصورها مع غازي القصيبي وذكريات استقبالها عندما كان عميداً للسلك الدبلوماسي بالبحرين عام 1986م؛ حيث يغريه صديقٌ له بكتابة بيتين من الغزل في الأميرة (ديانا)! بعد تحّرج ٍ وتردّد من أنه سوف يجرحُ البروتوكول كتب غازي القصيبي ما يلي:

أطلّت ديانا كضوءِ الصباحِ

فلم يبقَ قلبُ هنا ما شردْ

فديتُ الشفاةً..فديتُ العيونَ

فديتُ الخدودً فديتُ الجسدْ

أخاف عليها مرورَ الهواءِ

وأخشى عليها عوادي الحسدْ

وياقوم! ما قلتُ هذا النسيب

ولكنه صادرٌ عن (..........)

حيث يتركنا الشاعرُ الدبلوماسي في حيرة مع الشطر الثاني من البيت الأخير. ويتخيل كل منا أي كلمة تناسب قافية (الدال) المُسكّنة!؟ وتتاول (الاسطورة) حياة الأميرة ديانا وموتها المفاجئ الذي أحزن العالم.

بعد السكنى في (شقة الحرية) التي سجلت زمكانية تواجد غازي القصيبي في القاهرة مع مجموعة من الشباب العربي وشقاوة الدراسة وعنفوان الثورة ونهم القراءة بعد الخروج من المجتمعات المغلقة في الخليج، والتي تحتاج إلى صفحات كثيرة، تدخلُ (استراحة الجمعة) حيث تجد عالماً من الحكايا والمواقف والشخصيات العديدة؛ التي لها ثقل ثقافي وإعلامي واجتماعي في الحياة التي كان يعيشها غازي القصيبي. حيث ينقلك من المقامة الحياتية للشويعر إلى المقامة البطرس غالية إلى الألقاب إلى النزاريات إلى (القُبل الحساوية).. وهو موضوع مثير أخذه الكاتب عن الدكتورة فوزية الدريع التي قالت:

(إن القُبلة الحساوية تتم بتكرار تقبيل منطقة واحدة بشكل مُرَكَّز مُتواصل وبدرجة تختلف من شخص لآخر).. وهي طريقة التقبيل الاجتماعي بين أهل منطقة الإحساء (ويعلق) ولا أدري هل من واجبنا - معشر الحساوية - أن نشكر المؤلفة الفاضلة أو نحتج عليها؟).

ونحن نقول: إن هنالك طريقة التقبيل الإماراتية والبحرينية والقطرية. وهذه الأخيرة تتضمن تقبيلَ جهةٍ واحدة من الوجه دون التنقل من جهة إلى أخرى، وهي طريقة الشباب في التقبيل؛ تماماً كما هو الحال في لبس الغترة بطريقة (الكوبرا) التي يقوم بها الشباب طلباً للتميّز.

لا يتسع المكان المحدد لي في الجريدة كي أجولَ في مدارات غازي القصيبي كلها! فهذه المدارات مليئة بالكواكب والأقمار والأشجار اليانعة التي غرسها غازي القصيبي في صدر الثقافة العربية. ومازال أمامي واقفاً (سعادة السفير)، محاولاً الولوج إلى (حكاية حب) بعد (العودة سائحاً إلى كاليفورنيا) بعدما ودَّع لندن على طريقة عبدالحسين عبدالرضا (باي..باي لندن),. ويصادفك هناك (مع ناجي ومعها) وينبض على الطاولة أمامي دم محمد الدرة في (يافدى ناظريك) حيث متواليات الأحزان، تأتي مرثية حفيد القصيبي (سلمان بن فارس القصيبي) وهو في شهره السادس وهي خير ختام لهذه الرحلة في مدارات غازي القصيبي الذي نتمنى له المزيد من الإبداعات وأن يُبعد الله عنه الحساد، ويُقطّع بينهم السُبل فلا يصلوا مرة أخرى إلى سيف الدولة!؟

يقول في سلمان:

سلمان!

سلمانُ.. هل تمنحُني

تذكرة َ الدخول في عالمك الصغيرْ

في عالم الدمية.. والحليب.. والسريرْ

كلُ الكبار فيه طيبون

وإن بكيتَ، بغتة، لا يغضبونْ

وإن ضحكتَ، فجأة، يقهقهونْ

وأنت يا سلمانُ في دنياهم

السلطانُ والمليكُ والأميرْ

إذا سهٍرتَ يسهرون

وإن عبَستَ يعبسونْ

حتى إذا ابتسمتَ ابتسمَ المكانً

وهزّت النشوةُ جدَّكَ الكبير.

قطر

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة