Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
(سعادة السفير)
سميحة خريس

 

يضع بعض النقاد النص الإبداعي في قارورة الاختبار، ويخضعونه لمقاييس دقيقة، في معظمها نظريات توصل إليها تاريخ الأدب، بعضها شديد التمسك بالماضي، وبعضها منطلق بلا هوادة نحو تغيير شامل، وقد يحاول الناقد الانطباعي امساك العصا من المنتصف، وصولاً لعرض النص وإبداء الرأي التذوقي فيه، وتظل مسألة تصدي كاتب لنص آخر محفوفة بالمخاطر، لا تساعد فيها تلك النظريات ولا الحلول النقدية، فالأمر مرتبط بصورة مباشرة بتذوق الكاتب وفهمه للأدب، لهذا كانت مهمة قراءة رواية لكاتب غني الإنجاز أمر عسير وقع لي.

غازي القصيبي المحاط بهالة الدبلوماسي والسياسي، يمثل تحدياً من نوع آخر، في البداية من الأجدر نسيان الشخص والتعامل مع النص، ربما على هذه الصورة أحيد قراءاتي لنصه، لكن النص الذي أحمله وأتعامل معه يحمل اسماً مخاتلاً، رواية (سعادة السفير) في المقام الأول تخدعك بتوقعات غير صحيحة، كأن تعتقد أن القصيبي يكتب جانباً من سيرته الشخصية، فهو في الواقع سعادة السفير، والغلاف الذي يحمل الاسم عتبة مخاتلة أخرى، إذ إن لوحة الفنان البولندي (رافال أولبنسكي) تمثل خلفية تبدو فيها عاصمة الضباب لندن وقد انجلى بعض ضبابها عن سماء مرصعة بالنجوم، وفي منتصف اللوحة نافذة تقف عليها الحمائم وتكشف عن وقفة عاشقين، بمعنى غامض تقول اللوحة أن الكاتب سيكشف جزءًا غامضاً وماتعاً من تجربته اللندنية. لكن كل ما تقدم ليس حقيقيا، لندن موجودة بالفعل، كذلك العاشقين، والكاتب نفسه، ولكن ليس كما نتخيل أو نتوقع، فالرواية تضع حياة الدبلوماسي تحت المجهر، وفي هذه يمكننا أن نراهن أن التجربة الدبلوماسية التي عاشها القصيبي خولته لتقديم وصف دقيق، كما أتاحت لنا معرفة خفايا هذا العالم الأنيق الخاص، والذي يمثل مصالح دول متناقضة تجتمع في إطار برتوكولي راق ومهذب، لتخفي صراعات دقيقة وحاسمة ومصيرية، في هذا الجانب ينجح القصيبي في رسم صورة المجتمع المخملي، مستعيناً بما خبره حق المعرفة، وفي هذه التفاصيل الصغيرة، نجد بصمات القصيبي واضحة صريحة لا تخالطها شوائب، هذه التفاصيل بعض من (سيرة ذاتية) ولكن مجمل العمل الأدبي الموسوم باسم (سعادة السفير) ليس كذلك.

إنها رواية لا تتعلق بما حدث للكاتب، ولكن لما حدث للشخوص التي عايشها أو تخيلها وصنعها، يقدمها الكاتب عبر لغة بسيطة لا يتكلف فيها الزيادات، لكنها في المجمل قادرة على اقتناص القارئ، وهذه للحق طريقة القصيبي في مجمل نصوصه الإبداعية شعراً ورواية، إنها السهل الممتنع الخاص، لكن ما الذي تأتي به الرواية عدا تلك المعرفة الدقيقة والغنية لواقع الحياة الدبلوماسية؟؟ في تقديري أنها تحمل وجهة نظر في هذه الحياة، هي وجهة نظر سلبية في المجمل، هناك سخرية خفية من ذلك العالم المنشى المصطنع، تتكرر هذه السخرية مرات كلما رسم الكاتب صورة أنيقة لحفل أو لقاء.

(قضي يوسف ربع ساعة في حفل الاستقبال الألماني، مرت عليه وكأنها ربع يوم، لا شيء أثقل على نفسه من حفلات الاستقبال، ولا شيء يستحيل تجنبه في مهنة السفير سوى حفلات الاستقبال، يكره يوسف أن يتحدث واقفاً على قدميه، ويؤمن بنظرية مؤداها أنه يصعب على الإنسان الذكي أن يشارك في حوار ذكي وهو واقف (ص 31) وظيفة السفير هي الوظيفة الوحيدة التي لا يوجد لها توصيف، أعرف أن هناك التقارير الدورية، وهناك من يراقب أداء السفير في الدولة التي أرسلته، وفي الدولة التي استقبلته) ص 101

مثل هذه التعليقات تكثر في ثنايا النص وتحمل رسالة تفيد أن سعادة السفير القصيبي، خبر الحياة الدبلوماسية ورفع عنها قشرتها البهية وكشف خفاياها المزعجة والمتعبة بل والخطرة أحياناً. لكن محور الأحداث الذي يدور في المكان الدبلوماسي ليس هو بيت القصيد من الرواية، إنها قراءة لما حدث في الحرب العراقية، وان لم يسم الأماكن باسمها، وفي هذا الشأن لنا وقفة، ذلك أن الكاتب لما أراد تسمية البلاد العربية والأشخاص المعروفين، لجأ إلى تسميات بدت كاركتيرية ولكنها واضحة الدلالة، فأن تتغير الأسماء على نحو مقارب، أمر لا يمكن إخفاؤه، وفي تقديري أن هذا ليس ما أراده الكاتب، فلا الحدث خفي ولا الملابسات بعيدة عن الواقع، يمكن لأي قارئ حتى العادي الذي لا يتمتع بثقافة سياسية، أن يسمي الأسماء الحقيقة، فسعد أباد هي بغداد، والكوت هي الكويت، وهمام بن سنين هو صدام حسين، يمكن للمسميات المحورة بقصدية أن تؤشر على الواقع، فالمدينة التي تجري فيها ملابسات الخلاف بين السفير ورئيس الدولة، تسمى (سعد اباد) لتفيد معنى معاكس يدل على المصير التعس الذي تعاني منه هذه المدينة منذ فجر التاريخ، وهناك استعراض تاريخي متناثر بين الصفحات يدلل ع لى هذه المدينة الكئيبة الواقع والمصير، أما الكوت فهو تعبير يدل على تصغير في اللغة، وهنا نحن أمام دولة صغيرة تعصف بها الأحداث، وتتحول إلى مركز اهتمام عالمي، لكن الكاتب يستخدم لها اسماً مصغراً فيحدد حجمها، فإذا ما انتقلنا إلى اسم همام، رديف صدام أو الصورة المقابلة له بما تحمله من سخرية تتعلق بالشعار والشخصية نفسها، فهو الهمام على مر السنين، والنهروان تحوير للنهرين، الوصف الجغرافي الأكثر رواجاً للعراق، هناك سخرية مبطنة في الأسماء لا تخفى، في حين أن الكاتب يتصرف بحياد بارد في التعامل مع الأسماء الغربية، فكل دولة أو مدينة مسماة باسمها الحقيقي، أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا.. تقودني هذه المفارقة إلى الإحساس بعمق أن الكاتب يريد تسجيل وجهة نظر تحمل كل المرارة على الوضع العربي تاركاً العالم الآخرعلى هيئته ملتفتاً للوجع الداخلي.

الأحداث وان بنيت على وقائع حقيقية تتعلق بالداخل العراقي والكويتي، إلا أنها تنقاد لسخرية الكاتب تماماً، فحين يعلق الحرب التي وقعت بين البلدين على أنها نتاج مباشر للغيرة من قبل رئيس الدولة الذي يحقد على السفير لمجرد علاقته بامراة، يبدو لي هذا المنحنى ساخراً متعمداً، حيث الأشياء التافهة الصغيرة تدمر مستقبل دول وتثير النزاعات الدامية، بمثل هذه الإدانة يذهب القصيبي إلى ابراز مرارة الحدث، وهو يلعب لعبة التماهي بين الطرفين المتنازعين بجرأة وذكاء، فالسفير الذي أشعلت علاقته الغرامية فتيل الحرب كان صديقاً للديكتاتور، وهو حين يشرح أبعاد تلك العلاقة الملتبسة يدين الطرفين ويضعهما في مرآة متقابلين، مع شيء من التعاطف مع العاشق الضحية، فنجد السفير يكتب رسالة إلى زوجته الراحلة التي دفعت ثمن الغيرة وراحت ضحية مناكفة الرجلين، فيقول لها( ) كانت علاقتي بالرجل تستنزفني، تمتص روحي، قطرة قطرة، تحولني تدريجياً إلى شيء مثله بلا روح، لا يوجد شيء يقتل أجمل ما في الروح مثل الاقتراب من ديكتاتور، الرغبة في ارضاءه تقتل جزءً من الروح، والرغبة في تقليده تقتل جزءاً ثانياً، الرغبة في البقاء بظله تقتل جزءاً ثالثاً، ماذا يتبقى من الروح؟)

يمكن لمس ذلك التماهي بالمهمة التي اختارها السفير لنفسه بعد خروجه من بلاد النهروان فاقداً للحبيبة التي سرقها الرئيس، والزوجة التي قتلها الرئيس أيضاً، إذ أمضى جل وقته يخطط لانقلاب على ذلك الرئيس بالتعاون مع قوى المعارضة التي بدت ضعيفة وغير قادرة على الإيفاء بما تعد به، فهو يدخل نفق المؤامرات السياسة مثل الرئيس تماماً، في ذات الوقت الذي لا يكف فيه الرئيس عن التآمر ضد الرجل الذي عشق حبيبته، بل وأنه يورط تلك الحبيبة المطربة شهرزاد بمحاولة تصفية السفير وقد أمسك ابنتها رهينة مهدداً بقتلها إذا لم تؤدي العاشقة مهمة الديكتاتور على أفضل وجه.

يمر الحب في الرواية كأنظف ما يراهن عليه الانسان، فسعادة السفير كان مستعداً من أجل امرأة يحبها أن يترك الحياة السياسية والدبلوماسية ويخسر موقعه ويجد الآمان في حضن الحبيبة، لكنه لم يكن يدرك أنها مدفوعة لتصفيته، وقد تعقدت الأحداث فجأة فكان ظهور اليهودي الذي يحذر السفير مرتبكاً بعض الشيء، بلا مبرر معقول إلا إذا كان وسيلة لتمرير انتماءات السفير السابقة للناصرين، كما أن النهاية المشتهاة المتمناة بمقتل الديكتاتور على أيدي المعارضة خالف الواقع، وقدم نهاية رومانسية لأحداث انتهت واقعياً بخواتم شديدة القتامة، وانزاح بصورة كبيرة عن الوقائع المعروفة، لصالح ما تمناه الكاتب مثلاً أو مجمل ضحايا هذا الوضع المأساوي...

كتب القصيبي رواية يحاول فيها أن يبحث عن كوة للنور عبر الحب، وكان الواقع أكثر قسوة وانغلاقاً حيث انحبس النور تماماً..لكنه قدر المبدع أن يركب أجنحة الخيال بحثاً عما يمكن من جمال ضائع وشائه...

الأردن

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة