Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
عربستان الأزل بين الجد والهزل...!
مجد عبد الرزاق

 

(العصفورية) نص سردي طويل يمتد على مدى أكثر من (300) صفحة من القطع الكبير، لكن حكايته لا تتجاوز الثلاث صفحات، وثلاث شخصيات لا يتجاوز زمن الحكاية عشرين ساعة مفتوحة يغطيها خطاب البروفيسور نزيل مشفى الأمراض العقلية (العصفورية) في لبنان، حيث يبدأ النص بمدخل تمهيدي يضم البروفيسور والممرض (شفيق)، ينادي البروفيسور على شفيق ويسأله عن الدكتور (سمير ثابت)، فيقول له إنه (فلّ) إذ يباد هنا الروائي فورا بأول انتهاك للثوابت، وهو الثابت اللغوي، ف(فلّ) في اللهجة اللبنانية تعني خرج، وهكذا سيكون النص مطرزا بهذه الانتهاكات المنظمة للكلام التي تقوم بها العامية بتعدد لهجاتها في العالم العربي، بل واللغة الإنكليزية المكتوبة بالعربية مما يؤدي إلى بعض الصعوبات الجدية على مستوى سلاسة مقروئية النص، التي سرعان ما يتعود عليها القارئ وتجتذبه لوقع السخرية والهزل فيها، على هذا فإن التعايش ما بين المعقول واللامعقول، المأساوي والملهاوي، دعانا لاستعارة عنوان مقاربتنا هذه من مسرحية للمسرحي العراقي يوسف العاني تحت عنوان: (بغداد الأزل بين الجد والهزل )، وأحللنا عربستان مكان بغداد، لأن الكاتب على مدى اتساع النص يستخدم (عربستان) كتورية مجازية عن العالم العربي، كما وأنا قد استعرنا هذا العنوان تأثرا بالمناخات الفانتازية للنص، سيما وأن الكاتب كثيرا ما يلجأ إلى السجع لتحقيق مفارقاته الساخرة الجذابة، يعقب الانتهاك اللغوي العامي للغة الرسمية انتهاك لمنطق الزمن ولمنطق العلاقات الاجتماعية، فهو يطلب من الممرض أن يطلب له فورا فخامة الرئيس (كميل شمعون)، وعندما يخبره بأنه قد مات، يطلب (سامي الصلح)، فيقول له إنه مات أيضا، فيسأل من رئيس الجمهورية الآن؟ فيجاب بأنه (إلياس هراوي)، وأن رئيس الوزراء هو رفيق الحريري، وعندها يسأل متى يرجع الدكتور(سمير ثابت) يقال له (على بكره) بالعامية أيضا، فيطلب أن يحضر لمقابلته فور عودته.

إن وظيفة مدخل الحكاية هنا إبلاغنا أن الحدث الروائي يتم في مشفى أمراض عقلية، بطل هذا الحدث شخصية مختلة لعلها مصابة بداء العظمة الذي يطلب الرؤساء اللبنانيين لمقابلته، والمظهر الثاني لاختلاله هو اختلال الزمان، فهو يخلط بين أزمنة شمعون وسامي الصلح من جهة وزمن الهراوي والحريري من جهة أخرى، وبعد هاتين الصفحتين سيبدأ المتن السردي على مدى ثلاثمائة صفحة متواصلة لمدة عشرين ساعة، حيث سيكون حجم (المخرج) كحجم (المدخل) لا يتجاوز الصفحتين، إذ سيدخل الدكتور (سمير ثابت) الجناح ثم يخرج مذعورا وهو يصرخ على (شفيق) بأن البروفسور ليس موجودا في جناحه، ويتساءل أسئلة غريبة مضطربة يظهر عليها أثار اضطرابات البروفيسور المعالج، حيث يتساءل حول خروج البروفيسور وممكنات أنه قد ذهب إلى زوجته (الفراشة) أو(دفاية) وهي الزوجة الجنية الثانية للبروفيسور الذي ربما يكون قد لحقها إلى عالم الجن، أو على كوكب الفضاء... فراح الممرض يصيح بأن الدكتور قد جن، بينما يجلس الدكتور سمير ثابت على أرض الممر منخرطا في ضحك عميق سرعان ما يتحول إلى بكاء عميق يردد خلاله: ضيعانك يا بروفيسور! والله ضيعانك! ضيعانك!

وينتهي النص، الذي يوهمنا الكاتب بأننا ربما تجاه نص مسرحي، حيث يحدثنا عن مدخل ثم مخرج، ومن ثم نص حواري على مدى اتساع النص بين الدكتور سمير ثابت والبروفيسور، يكون فيه الدكتور سمير هو السائل بوصفه طبيبا نفسيا، والبروفيسور هو المجيب بوصفه هو موضوع العلاج.

هذا البناء الواقعي الذي يوحي بالمعقول سيضم في هرمه البنائي فضاءات لامتناهية من اللامعقول الذي يتمثل لنا كمعقول، مادام الناطق به كان قد تحطم الحاجز في داخله بين المعقول واللامعقول، بين الواقعي المعاش والمتخيل الذي يعيد إنتاج الواقع بوصفه (أخيولة)، بين الأرضي والماورائي، عالم الأنس وعالم الجن،المأساوي والملهاوي، بين السخرية والجد والهزل والرصانة، والإشارة المباشرة والإيماء اللماح، مستعيرا أشكالاً أدبية مستمدة من الميراث الحكائي العربي عن وادي عبقر الذي يتجمع فيه شياطين الشعراء، ومن ثم استلهام شكل رسالة الغفران التي يستحضر فيها أبو العلاء الشعراء وشياطينهم من وادي عبقر، ومن ثم الاستفادة من الأشكال الحكائية الشعبية والشفوية عن (طاقية الإخفاء - بساط الريح) لإنتاج نص مفعم بالسخرية الطازجة والتهكم اللماح، والدعابة الأدبية والتهكمية الساخرة والهازلة مع أدباء وشعراء زمنه المتداخلة مع نوادر وحكايات وتأويلات الشعر العربي القديم، حيث يحضر الجميع وفي طليعتهم المتنبي الذي يسميه البروفسور ب (أبو حسيد) لكثرة حساده، ولما كان يشكله الحسد من شاغل ذهني ونفسي هوسي ربما بلغ حدود المخايلة المرضية، عندما يفسر انقلاب سيف الدولة عليه بسبب حسد سيف الدولة للمتنبي، لأنه وفق قراءة متخيل البروفيسور بأن المتنبي نفسه فسر له هذا الحسد من قبل سيف الدولة الذي كان ينقم عليه شاعريته... لأن سيف الدولة لم يكن إلا شويعرا ص 23 أي شاعرا صغيرا.

هذا الشكل البنائي يتأسس على قاعدة انهياراته التفكيكية التي تتشظى تداعيات واستطرادات، يتداخل فيها الحاضر بالماضي، الفكرة بالنادرة، والطرفة بالمعلومة على طريقة الجاحظ الذي يقر البروفيسور ( بأن الاستطراد جزء أساسي من أسلوبي، وأسلوب الجاحظ ( ص 154، أي من أسلوب النص الذي بين أيدينا، الذي هو بذاته أسلوب السرد والروي الذي يشغل الحيز الأعظم لنص (العصفورية).

غير أن النزعة الموسوعية التي تهيمن على كتابة (القصيبي) سرعان ما تقوده إلى استطراد (نحو فرويد) إذ يتحدث عن كتاب الجاحظ عن ( المفاخرة بين الغلمان والجواري) فيرى فيه كتابا فرويديا (على كيفك) وفق الصياغات العامية التي تكثر في نص (العصفورية) حتى تكاد تبهظه وتعسر قراءته.

ثم يعود إلى الجاحظ دودة الكتب وحكاية موته صريعا تحت كتبه، لينتقل سائلا الدكتور(سمير ثابت)! إن كان يعرف أن الجاحظ من أئمة المعتزلة؟ ص 151 - 153... وبهذه المناسبة يتكشف الكاتب عن اطلاعه الموسوعي على ثقافة التراث من خلال تناوله النقدي لفكر المعتزلة والمأمون، لكنه نقد يفاجئ قارئ (القصيبي) إذ هو يوجه سهام نقد أشعرية محافظة ضد الاعتزال، بل ويشكك بحقيقة تمثيلهم للمدرسة العقلية، عبر تبسيط لا يتناسب مع الوعي التنويري الليبرالي العقلاني العميق الذي يميز رؤية كاتبنا، رغم أننا لسنا في سياق المساجلة التراثية حول الاعتزال في نص حكائي وسردي إلا أنه لابد من التوقف عند رده على تسمية المعتزلة بأنهم رواد (المدرسة العقلية )، فيعقب ساخرا ( فإن الآخرين ليسوا مجانين)....وكل واحد راضي بعقلو وما حدا راضي برزقو... )، إن هذا الرد لا يتناسب مع العمق الثقافي الذي تتسم به كتابة كاتبنا، فالتسمية العقلانية للمعتزلة ناتجة عن مصفوفتهم المنهجية في تقديمهم (العقل على النقل) وتجلى ذلك في قلب قاعدة (قياس الشاهد على الغائب) إلى تقديم قاعدة (قياس الغائب على الشاهد)، أي أن الأولوية -والأمر كذلك - هي للمتعين المشاهد على الذهني الغائب أن أي الاستناد إلى الحاضر الذي يستبدل به على الغائب، أي الانطلاق معرفيا من الظاهر إلى الباطن، حيث تناط معرفة الباطن المغيوب بمعرفة قوانين الظاهر الملموس، ومن ثم فإن هذه القاعدة قلبت منظور الفكر الإسلامي تجاه المسائل الفقهية والكلامية ومن ثم الفلسفية، على مسألة القول بالحرية والاختيار ومسألة العدل ومرتكب الكبيرة، والمنزلة بين المنزلتين وخلق القرآن.... الخ مما لا مجال لمعاورته في هذا السياق، كما أن النص يمكن له أن يتجنب هذه المساجلة بدعوى أن الخطاب الفلسفي شوالكلامي هذا يتأتى على لسان شخصية فانتازية لا يعوّل على صدقية قولها أم عدمه...!.

وبعد مجموعة من الانتقالات والاستطرادات اللطيفة عن العلاقة التناقضية بين (التطرف والسخرية)، وبعد أن يقوم بمقارنة رهيفة بين المعري وأستاذه المتنبي، فالأول قابل للسخرية من كل شيء حتى من النفس على عكس الأستاذ (المتنبي) المتطرف الذي يرفض السخرية من ذاته، نقول بعد هذه الاستطرادات الشيقة، يعود إلى موضوع علم الكلام، معرجا على الأشعري الذي يأخذ عليه موقفه الوسطي بين المعتزلة والسلفيين، فلم يرض الاثنان، لكنه يأخذ عليه أطاحته بالسببية مع تلميذه حجة الإسلام الغزالي: ( النار لا تسبب الحرق، بل مجرد العادة )، لكن رغبة الكاتب في جعل نصه التخيييلي نصا فاعلا في محيطه الثقافي فهو يستدعي الحوار والمحاجة خارج الشرط التخييلي، إذ من حق القارئ -والأمر كذلك - أن يختلف مع الكاتب ذاته وليس مع شخصيته الساردة المتخيلة، مادام موضوع الحوار غير تخييلي، فيستطيع المتلقي أن يتحفظ على الدمج بين الأشعري والغزالي، لأن الأول فقيه دنيوي، بينما الثاني (الغزالي) فيلسوف رباني سباق في الكشف عن دور الحدوس لدى (الأوتاد والأقطاب والأبدال)، مما دفع ابن القيم لإدانته بكونه باع الفقه بثمن بخس من التصوف...الخ مما لا مجال للإطالة، بالإضافة إلى حق القارئ أن يعترض على الدمج بين ابن حزم الأندلسي وابن تيمية الحراني، فالأول لديه متسع لسانحات القلب وأسئلة العقل، التي أغلقها الثاني.

على كل حال هناك معادل تقني روائي حداثي لشكل الاستطراد وكسر الحاجز بين الظاهر والباطن والمعقول واللامعقول، وتداخل المتن الحكائي بالمتن السردي، واختراقها جميعا بخطاب سردي يحيل إلى أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل إذ تتقاطع وتتحايث وتتجاوز، مما يوحي به النص من خلال الحديث عن طريقة جيمس جويس في الكتابة الروائية، إذ يتحدث الراوي البروفيسور عن لقائه بجيمس جويس (والد الرواية الحديثة) التي ( لا تبدأ أو لا تنتهي ) وهي بذ لك مشاكلة لرواية كاتبنا (العصفورية) كما يريد الروائي أن يومئ من وراء ظهر الراوي الحيادي، وليس فيها عقدة، ولا أخيار ولا أشرار ولا رواية ولا معلق، حيث تتناثر في السطر الواحد عشرات الإيماءات والألغاز.... وعلى هذا فإن رواية ( يوليسيس ) لا يمكن لأحد أن يتذوقها ما لم يكن ملما بالتاريخ والفلسفة والتراث الإغريقي والأديان المقارنة وعلم النفس وكل مما يمكن معرفته عن إيرلندا، وعلى هذا فقد كان جيمس يطلب من القراء أن يقضوا سبع سنوات في قراءتها ليستمتعوا بكل مغاليقها، وهي الفترة التي قضاها كتابها... إذ قد كتب عن هذه الرواية أكثر من 3000 كتاب وبحث جامعي، توصف هذه الرواية بأنها أصدق رواية في الأدب الإنجليزي. ألف صفحة عن يوم واحد في دبلن، حيث إن الرواية من أولها إلى آخرها تقوم على تدفق المشاعر، وتداعي الأفكار؟ ويضيف ما أنا بصدده (ص 67).

هذه الإضافة ( ما أنا بصدد ) فيها التباس مقصود وغموض بناء كما يتداول اليوم في الخطاب السياسي، إذ أن الالتباس والغموض هذا قد يشير إلى طريقة البروفيسور في السرد المتدفق والمتداعي بسلاسة بدون قيود الزمان والمكان، من جهة، وقد تشير إلى طريقة الكاتب في تحقيق نصه بوصفه (رواية حداثية) لا تلتزم شروط الرواية الكلاسيكية التي يحققها بمهارة فائقة في روايته (شقة الحرية).

ولعل أهم مزية للرواية الحديثة من المنظور السوسيو - دلالي أنها وفق جورج لوكاش، هي ( رواية وضع ) وليس رواية تاريخ، أي رواية ترصد الوضع الإنساني بوصفه وضعا مأزقيا وجوديا وانطولوجيا، وليس الرواية النهرية التي تسير وفق التسلسل الزمني حيث التحول والتغير والتطور، وحيث يحكمها القانون التاريخي المحكوم بقانون التقدم في منظور عصر الأنوار.

وبهذه الدلالة ووفق هذا السياق يتبدى نص (العصفورية) عن شكل (رواية الوضع )، أي الواقع القائم فيما هو عليه (وضعيا) وليس الواقع فيما يمكن أن يكون عليه تاريخيا.

ولذا فالسرد يتخطر عبر كل العوالم والأزمنة ذهابا وإيابا دون مراعاة وحدات الزمان والمكان والعقدة ووحدة الموضوع ومآل الشخصيات، فالبروفيسور هو ذاته منذ (المدخل) إلى (المخرج)، وحيث الزمان الروائي هو زمن محايث لزمن القراءة لا يمتد على أكثر من مدى (عشرين ساعة)، أي أنه يعادل زمن القراءة تقريبا الذي يمكن أن يقدر بعشرين ساعة، وهو ما يعادل زمنيا رصد يوم واحد في حياة دبلن كما فعل جويس.

لعل الشكل الذي اختاره (د. القصيبي) لنصه ساعده على تمرير الكثير من الممنوعات في عالم عربستان الذي ترقم أقطاره بعربستان 50 وعربستان 49.... الخ، ولا نعرف إذا ما كان حواره النقدي الجائر مع الاعتزال يأتي في هذا الباب من التحوط الرقابي، فما أكثر المفردات والتعبيرات المنتشرة في أنحاء النص التي فيها بعض البذاءة أو الصراحة المكشوفة جنسيا، لكن ما يشفع لها أنها لا تشير إلى واقع بذاته، بل إلى واقع متخيل ينتجه خيال مريض لشخص يهذي في (العصفورية) بالإضافة إلى أنها كثيرا ما تأتي في قالب السخرية الهازل، أو يخفف من جديتها بأن يتم الاستطراد إلى موضوع هازل ساخر يخفف من وقع الجدية الصادم، سيما عندما سيفصح عن رأيه في مسألة الديموقراطية، فانه يعقبها مشهد ساخر ممتع إذ يتحدث عن الدبلوماسي العربي الذي يخدم بمعدته، ومن خلال هذه النظرية الأكل الديبلوماسي، كان الراوي البروفيسور أول من توقع غزو الكويت على حد تعبيره ص 285. لعل هذا الإعلان الصريح والعلني عن (عدم خوف إسرائيل إلا من الديموقراطية) ليس مفاجئا لقارئ كاتبنا (القصيبي) بعد أن تعرف على روحه التنويري، حيث الشخصية المركزية في روايته (شقة الحرية) تقطع نهائيا مع ميراثها (القوموي) التقليدي: (الناصري - البعثي - القومي العربي) لانعدام المضمون الديموقراطي لهذا التيار، وهو ما يتاح للقارئ أن يستخلص دلالة المغزى في الرواية السالفة الذكر (شقة الحرية) هنا، ولأول مرة، يعلنها صراحة أنه لا سبيل للعرب في خوض معركتهم ضد إسرائيل من الديموقراطية، هذا هو السر الأعظم، سر الأسرار الأكبر، الذي يفضي به الجنرال الإسرائيلي (موشيه)، لأنه وفق الجنرال: عندما يزول حكم الفرد وتبدأ تجربة ديموقراطية حقيقية في أن مكان من عربستان - البلاد العربية - سوف تكون هذه بداية النهاية لنا...

لكن الجنرال موشيه يردد: ولكن أين أنتم من الديموقراطية؟ أين أنتم من الديموقراطية؟

شالوم أيها الولد الحبيب! ( ص 283 )

وهنا يتساءل السارد الأساسي (البروفيسور)، أسئلة هي بمثابة إجابة عن ممكن الإجابة العربية النموذجية التي صاغها الاستبداد العربي، فيقول: نعم إن خصوصية التجربة الديموقراطية الأوروبية، مفهومة، وخصوصية التجربة الديموقراطية الأمريكية مفهومة... ولكن ما المانع من وجود تجربة ديموقراطية عربستانية لها خصوصيتها؟

وهنا يسوق المثال الهندي الذي يكذب ادعاءات الخصوصية الأوروبية والأمريكية، فللهنود ديموقراطيتهم أيضا، ولكي يظهر الخطاب اعتداله وتجنبه أن يظهر بمظهر المغالاة في الديموقراطية، فإنه يصحّف قول ونستون تشرشل الشهير القائل: إن الديموقراطية قد لا تكون هي النظام الأفضل، لكنها النظام الوحيد القادر على تصحيح أخطائه، فتصبح صياغة القول بعد إعادة إنتاجه لمراعاة الخصوصية العربية، بأن الديموقراطية ليست نظاما جيدا للحكم، ولكن الأنظمة الأخرى أسوأ بكثير.... ويعقب الروائي على لسان سارده شارحا بشكل مخفف قول تشرشل، قائلا: في الديموقراطية على كثرة عيوبها، لا يمكن لفرد واحد أن يزج بالأمة في متاهات حسب مزاجه، يحارب يوما، ويعدم المطالبين بالصلح، ويصالح غدا، ويعدم المطالبين بالحرب.

وعلى هذا فإن النص بهذه المقدمات يدفع باتجاه تفسير الهزائم أمام إسرائيل، بأن الأخيرة كانت دائما مساعدة للأنظمة الديكتاتورية، وأنها لذلك لا تخشى المد الأصولي، لأنه كسوابقه بالنسبة إليهم حسب الجنرال القائل: ( لا نخاف أي حركة تنتهي بتسلط الفرد... التعامل مع فرد أمر سهل، بمجرد أن تعرف نقاط ضعفه تصل إلى مقتله... ويسوق مثالا عن ذلك: هو ذلك الزعيم الذي اكتشفوا جنون العظمة الكامن في أعماقه، فأوحوا إلى عملائهم بأن يكونوا الأوائل في صنع (التماثيل والجداريات) لينشغل الرجل بنفسه عن كرهنا (ص 281).

لكن لا يلبث الراوي (البروفيسور) أن يغير الموضوع بوصفه إحدى استطراداته، لينتقل فيحدثنا عن تكليفه بأن يكون سفيرا للجامعة العربية ليطلق عنان موهبته الساخرة من الدبلوماسية العربية، بعد أن (غدا جهاده الأعظم لم يكن بالكلام كان بالطعام ( ص 284)، ثم كيف توقع الغزو العراقي للكويت بسبب الأكل الدبلوماسي، عندما كان يرفض السفير العراقي الأكل على مائدة السفير الكويتي، قائلا: (ماكو أوامر) ص285.

هكذا يحقق نص (العصفورية) المعادلة الصعبة في أن المسائل الكبرى ليست دائما من اختصاص التفكير الجاد والتراجيدي، بل يمكن بلوغ النتائج ذاتها بالهزل والفكاهة التي ربما تكون أشد ألما من الجد ذاته وأشد مأساة من المأساة ذاتها.

باريس

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة