Culture Magazine Thursday  05/03/2009 G Issue 273
عدد خاص
الخميس 8 ,ربيع الاول 1430   العدد  273
سيرة المتغيرات
د. عبدالله محمد الغذامي

 

هناك خلاصات ذهنية تشير إلى منزلة أي إنسان في ضمير الثقافة، ولغازي القصيبي رمزياته الذهنية الخاصة التي ما إن يرد اسمه حتى تتداعى هذه الخلاصات الرمزية وتضع صورته واسمه في موقع معنوي عميق في لحظات التسمية، ولن يكون ذلك عملا تذكاريا ولكنه علم تشخيصي، ومذ ظهر غازي القصيبي في ثقافتنا العامة وهو رجل يجمع أكثر من صفة وكان ظهوره الأول بوصفه شاعرا وأكاديميا، وتلك هي إطلالته الأولى في السبعينيات وتبعتها صورة الرجل المثقف ذي النظرة الاجتماعية العامة، ولم يلبث أن ظهر غازي المسؤول في مصاحبة وثيقة لصورة الشاعر والأكاديمي ثم الكاتب والمفكر ورجل القرارات القوية والضاربة، وكل ذلك يجيء على شكل تسلسل درامي وعلى شاكلة حبكة ثقافية هي نموذج سردي اجتماعي حتى صار غازي حديث المجتمع كافة مثلما هو حديث الخاصة والنخبة الثقافية.

وهذا الظهور السردي جاء في حلقات متتابعة لا تكل عن المفاجأة، لا من حيث تسلمه للمواقع بل أيضا من حيث تخليه عن موقع مهم من هذه المواقع بطريقة شعرية مثيرة، وهو تاريخ من القلق والمباشرة لم يكن معهودا في الوسط العام في بلد محافظ ومتحفظ حتى في أخباره.

ظل غازي يعطي الناس أخبارا ويعطيهم قصصا عن نفسه بما أنه سيرة لمتغيرات اجتماعية وثقافية تختلف عن السائد، وظل هو نموذجا لغير السائد، يتكلم عن نفسه وعن المؤسسة وعن السر وعن الضمير وكأنما هو يقول سواليف يحكيها على أهله وخاصته، ولكن الأهل والخاصة هنا هم الناس كل الناس وهم التاريخ المفرود أمامه وبصفحات مفتوحة.

وهذا أفضى بالشاعر لأن يكون حكائيا فكتب رواية المجتمع والناس والبعثات وشخوص المخمل والهامش معا، ولم يتخل لا عن شعره ولا عن موقعه الرسمي ولم يتقاعد عن شيء من أجل شيء آخر.

كسر غلواء السر الاجتماعي الرسمي لأصحاب المقامات والمناصب الذين يحيطون سرهم بسياج من الحياء والإضمار، وكسر الحدود بين الأنشطة، بين الشعر والسرد وبين المنصب والكشف وبين الرسمي والجماهيري. وظهر رجلا نشطا ليكسر صورة المتخصص المنكب على نفسه مثلما كسر صورة الرجل الكسول كما تقول الانثروبولوجيا العنصرية عن خمول الصحراء وكسل النفط واستهتارية وتعالي الثراء.

لم يسمح للمنصب ولا للجاه الذاتي والعائلي أن تكون حواجز عيب وأسوار حياء أرستقراطي متخيل ولم يسمح للشعر أن يحاصر السرد ولم يسمح لرقيب أن يحاصر بوح الذات عن ذاتها.

يختلف الناس حوله حتى لتبدو الصورة وكأن المجتمع كله ضده، ويتفق معه الناس حتى ليبدو وكأن المجتمع كله معه، يكتب الشعر وكأنما هو شاعر فحسب، ويكتب السرد حتى لكأنما هو سارد لم يجر الشعر على قلمه قط، ويجري المقابلات صحافيا وفضائيا وكأنما هو رجل حر لا يقيده منصب ولا علاقات رسمية خاصة ودقيقة، ولربما خجل زملاؤه في الصف معه خوفا عليه وخوفا على وقار المقام المصان بالحصار والرسميات، ولكن كل هذا يمر لتتأسس صورة رمزية لرجل مختلف، حتى ليظهر اختلافه وكأن لا شيء يهمه.

يعجب الناس به ويغارون منه وينتسب باسمه وشخصه إلى الجميع فهو وزير مع الوزراء وهو شاعر مع الشعراء وهو روائي مع الروائيين وهو مترجم ومفكر، وهو حر ومقيد في آن، لقد قال مرة أحد الأدباء المصريين إن التاريخ سيشك يوما بوجود رجل اسمه طه حسين لأنه إذا نبش في الأوراق سيجد سياسيا يدعى طه حسين ورجلا أعمى يدعى طه حسين وسيجد رجلا يشك بالشعر الجاهلي بهذا الاسم ثم يجد آخر يكتب عن الجاهلي بحب وإعجاب مثلما سيجد مؤرخا ومترجما وروائيا ووزيرا بهذا الاسم وحينئذ سيقول إما بتشابه الأسماء أو برمزية الأسماء أو باختلاق هذه الأسماء، ونحن مع غازي القصيبي سنجد رجلا يتعدد ويتنوع وتترمز تعدديته حتى لتصبح الذاكرة حوله ذاكرة سردية وليست ذاكرة شعرية، والذاكرة السردية مركبة ومتعددة الشخوص والوظائف بينما الذاكرة الشعرية فردية وذاتية وهي صوت مفرد، وهي الغالبة على النماذج الاجتماعية والأكاديمية والثقافية، ولكن غازي مختلف ولذا فإن ذاكرة الناس عنه تختلف وتكون رمزيته الثقافية على الدرجة نفسها من الحيوية التي بدأها هو بكسره للحدود وعدم التحفظ على حدوده، وانتهى ذلك على سطح الثقافة وفي مكنون مضمرها حول رجل يعطي مثالا للعمل والمثابرة والإنتاجية غير التقليدية، وهذا هو غازي القصيبي.

السعودية

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة