Culture Magazine Thursday  07/05/2009 G Issue 282
فضاءات
الخميس 12 ,جمادى الاولى 1430   العدد  282
تجليات الاغتراب في قصص عبدالله باخشوين 2-2
نورة القحطاني

 

يذكرنا الكاتب هنا (بكافكا) حيث حول بطله إلى حشرة، والكاتب حول البطل إلى طائر، ليشتركا في تذكيرنا بالحيوان الموجود داخل كل منا ولكن بطريقة مختلفة، وكأن الكاتب هنا يؤكد تحرر الذات عند الابتعاد عن أطماع أهل الأرض، فلم يكتمل داخله النغري إلا بابتعاده عن عالم الأرض وقربه من السماء الطاهرة، لتأتي نهاية القصة قابلة للتأويل من انتصار للروح على الجسد وتحررها من أطماعه.

ويظهر الاغتراب الاجتماعي عند الشخصيات في عدم قدرتها على بناء علاقة جيدة مع الآخرين في محيطها، فيصبح الآخرون غرباء بالنسبة للشخصية ويشعر بالوحدة والعزلة كما حدث للبطل في قصة الأصدقاء حيث كان يستمتع بصحبة مجموعة من الأصدقاء يجلس معهم في المقهى (أثرثر ويسمعون. أفرغ ما في قلبي بآذانهم وأعود آخر الليل إلى غرفتي. أنام وحيدًا خالي القلب هانئًا مطمئنًا، ولا عزاء سوى آذانهم الصاغية (الأصدقاء - الحفلة) أحب هؤلاء الأصدقاء ووجد عنهم أمانًا يفتقده في ظل غربته، ولكن هذه الصداقة لم تدم فبدأ يشعر بتغير أصدقائه لدرجة أخافته (سألت نفسي عن الذنب الذي يمكن أن أكون قد اقترفته. حاولت أن أجد سببًا واحدًا يبرر نظراتهم تلك فلم أجد (الأصدقاء - الحفلة) وشعر بالخيبة أكثر عندما حاول معرفة سبب تغير حالهم فلم يجد من بينهم من هو قريب منه، وزاد ألمه أكثر صدهم له بطريقة تدينه بذنب لا يعرفه، مما عمق إحساسه بالاغتراب عن المجتمع من حوله ( إحساس رهيب بالغربة يملأ نفسي. وحيد وغريب أنا، يا سيدي. نظراتهم المستريبة تدفعني للجنون دفعًا. إنهم يعاقبونني بقسوة على ذنب لا أدري ما هو (الأصدقاء - الحفلة) نحن أمام موقف تتجلى فيه ذات الشخصية في تعاملها مع الآخرين وفشلها في تحقيق علاقة متوازنة مع الأصدقاء مما دفعها إلى الإحباط والتقدم إلى الضابط بطلب التحقيق معه كي يعرف السبب ويستريح بل يصل الأمر إلى طلب سجنه واعتقاله لأنه لم يعد يحتمل نظراتهم التي تدينه، وانهار في النهاية خائفًا من الجنون أو الموت، تلك كانت شخصية بائسة مستسلمة لاغترابها وهواجسها التي تجعله يشعر بالانفصال عن كل من حوله حتى أخوته (استنفدت كل ما في ذاكرتي. أصبحت ذكرياتي بلا معنى بعد أن ماتت أمي وتفرق من حولي أخوتي. ذهبوا جميعًا وتركوني وحيدًا مع ذاكرة خؤون. تركوني وحيدًا منبوذًا. تخلوا عني كأنهم يريدون التخلص من الماضي (الأصدقاء - الحفلة) ظهرت تلك العزلة عن الناس والوحدة عند كثير من شخصيات القصة على مستوى المجتمع، وداخل محيط الأسرة حيث تشعر الشخصية بهوة كبيرة تفصلها عن أفراد الأسرة بشكلٍ يدفعها إلى الانكفاء على الذات والميل إلى العزلة.

وتمثل التقنيات السردية عنصرًا مهمًا في تشكل اغتراب الشخصيات داخل القصة، ونقل ما تشعر به من الضياع والقلق والوحدة، وتعد ظاهرة تعدد الأصوات إحدى التقنيات الفنية التي وظفها الكاتب لطرح قضية الاغتراب برؤى متعددة، فتنوع السرد بين السارد العليم الذي يروي الأحداث بضمير الغائب، والسارد المتكلم الذي يعتمد الضمير (أنا) ليعبر عن الحياة الداخلية للشخصية، ويكشف عن أزمتها وعلاقاتها المضطربة مع الآخرين في قصصه, وهو متوافق مع توجه القاص الحائر المتسائل... الباحث عن ذاته وعن الحقيقة. وقد أتاح ضمير المتكلم للقاص قدرًا من السماحة وعدم التحفظ، وكأنّ القارئ أحيانا يقرأ اعترافًا ما أو رغبة في البوح ودعوة إلى المشاركة تصل إلى حد التعاطف معه والشعور باغترابه.

ويقابلنا هذا الضمير في قصة (موت أيوب) وما فيها من مؤشرات اغترابية تكشف عن عالم الشخصية الداخلي وما يجول فيه من آلام ومخاوف، فيصور لنا أعماقها ومشاعر الندم والإحساس بالعجز والانقطاع عن العالم الخارجي ووصف حالة الغيبوبة التي سرت في جسده( كان لا بد من عمل شيء يساعدني على كسر أغلال التخشب التي تطوق جسدي. غير أني عجزت تمامًا. بدا لي كل ما يحدث أشبه بكابوس رهيب لن ألبث أن أفيق منه. ثم بدا لي كأن لا علاقة لي بالأمر على الإطلاق. كأنني أرقبه وهو يحدث لشخص آخر لا أعرفه. (موت أيوب - الحفلة) نقل لنا المونولوج الداخلي مشاعر الاغتراب الذاتي عند الشخصية وأسهم في الكشف عن أزمتها وانقطاعها عن محيطها حتى ظنّ أهله أنه مات فأخذوا في تجهيز جنازته. وتتراوح قصص المجموعة بين استخدام ضمير الغائب تارة وضمير المتكلم تارة أخرى، ويمكن تفسير استخدامه لضمير الغائب في قصة (يقظة مبكرة) وقصة (الحفلة) رغبة السارد في نقل مظاهر الاغتراب التي تبرز في سلوك الشخصية وأفعالها، فتتدفق المشاهد من اللاوعي يتداخل فيها الواقع بالوهم والحلم، لأن الذات الساردة تعاني مخاوف كثيرة وتعيش أجواء من القلق والضياع تضغط على وعيها فيتحرر الخطاب القصصي من الترتيب المنطقي للأحداث ويلجأ لخطاب حلمي هذياني (كوسيلة مثلى للبوح بما لا يمكن التعبير عنه إلا عبر هذه اللغة المتفلتة من كل رقابة. فالعالم المتخيل الذي يشكله الكاتب المبدع بالكلمات هو بالضرورة عالم هش لكنه يصبح العالم الوحيد الذي يحقق للذات المغتربة والشقية بوعيها بعض معاني وجودها ولذا تتمسك به بوصفه عالمها الحميمي الوحيد الممكن تملكه وتحقيق الذات المبدعة من خلاله (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث، مج4، ص77) ولذا يركز الكاتب على توظيف هذه التقنية للتعبير عن معاناة الذات المغتربة وعزلتها عن العالم من حولها، كما أنّ (لعبة الكتابة هنا محكومة وموجهة بوعي يدرك جيدًا الطاقات التعبيرية الهائلة في لغة الحلم والهذيان التي تعدها بعض الدراسات النقدية، الفرويدية وغيرها، أقرب اللغات إلى لغة الفن الحديث في مجمله) (الموسوعة، ص58) ويظهر ذلك التكنيك الفني أيضا في قصة (النذير) التي تمتلئ بلغة الأوهام والكوابيس المزعجة التي تطارد البطل فيشعر أنها حقيقة، ويعيش رهابًا شديدًا من الماء الذي يسمع صوت اندفاعه في كل مكان فيختلط عنده الواقع بالوهم والحلم (ضرب جبهته بيده موقنًا أنه أعطى الصوت أبعادًا أكبر كثيرًا من هيأ له أنه سمع.

أوهام. أوهام. أوهام. بدا له كل ذلك أشبه بالحلم.... ما هذا الكابوس يا إلهي؟ (النذير - النغري)

إنّ حديث الكاتب في هذه القصة عن الماء بخوف ورعب من فكرة الغرق بعد أن توهم تدفق الماء من كل مكان، يمكن أن يرمز لمشاعر الذات المغتربة وبحثها الدائم عن ذات أخرى جديدة تحقق لها آمال مستقبل مختلف عن الحاضر المحبط، حيث إنّ الماء له دلالة رمزية على التطهر، فهو وسيلة الطهارة، ويشير أيضا إلى التجدد والحياة.

ومن أبرز التقنيات الفنية المستخدمة في قصص باخشوين: تيار الوعي، الذي يعد من المناهج الحديثة التي (تتيح للكاتب أن يصور لنا الحياة كما تتصورها تلك الشخصية، وأن يكشف لنا عن نظرة الشخصية إلى الشخصيات الأخرى، وبالعكس. وهكذا يرسم لنا معالم الشخصية من خلال عالمها الشعوري واللاشعوري الخاص، ومن خلال الأضواء التي تلقيها الشخصيات الأخرى عليها. وبهذا يقدم لنا صورة تنضح بالطرافة والألفة والصدق (محمد يوسف نجم، فن القصة).

عبّر الكاتب عن بعض حالات الاغتراب باستخدام تيار الوعي لإظهار أعماق الشخصية، وما يدور داخلها من مشاعر الانقطاع عن العالم، والعزلة عن المجتمع، فمنح ذاكرة الشخصية في قصة ( النغري) فرصة سرد سيرة طفولته وبداية علاقته بالنغري، ومراحل التحول التي توهمها البطل تحدث في داخله حتى اكتمال شخصيته الجديدة. كما كانت الذاكرة أيضا سببًا من أسباب شعور الشخصية بالضياع والخوف من المكان والناس في قصة (الغريق) حيث يمر البطل بأماكن يعرفها ويشعر أنه زارها قبل ذلك، لكن ذاكرته تخونه في تذكر الوجوه التي ترحب به وتعرفه وهو لا يعرفها ( فجوة سحيقة في ذاكرتي، ففي الوقت الذي سيطر فيه حضور الأماكن بكل دقة.. كنت أعاني من غياب الوجوه.. كل الوجوه، فأنا لا أذكر شيئًا عن الناس الذين يعيشون هنا (الغريق، النغري) لا تخلو العبارة السابقة من دلالة على دور الذاكرة في اغتراب البطل، وإحساسه بالخوف في مكان لا يعرف به أحدًا (تشوش ذهني.. لم أعد أدري ماذا أفعل بعد.. خاصة وأن ذاكرتي لم تسعفني بتذكر أي شيء عن علاقتي بهذه المدينة.. (الغريق، النغري) وهكذا كانت بعض الأحداث تأتي من خلال ذاكرة الشخصية وخاصة في مواقف معينة تفيض فيها الذكريات ويسترجعها البطل أثناء سرده للمشاهد والأحداث.

واستطاع الحوار بين الشخصية المغتربة وغيرها من الشخصيات في بعض القصص الكشف عن مظاهر الاغتراب وشقاء الذات المحبطة من واقعها، فصور الحوار بين الشخصية وضابط الشرطة في قصة (الأصدقاء) مشاعر الخوف المسيطرة على الذات، وكشف عن اضطرابها وقلقها من أوهام تملكته حوّلت الأصدقاء في نظره إلى أعداء، وجاء بلغة تعكس هذيانات الشخصية وهواجسها الداخلية، يتداخل فيها الواقع بأوهام الذات الخائفة.

ومن خلال ما سبق يمكن القول إنّ ما يلفت النظر في قصص عبدالله باخشوين هو سيطرة فكرة الاغتراب على شخصياته، كما وظف الكاتب تقنيات سردية متنوعة نجحت في تجسيد مظاهر الاغتراب المختلفة، وكشفت عن قدرة فنية لدى الكاتب في توظيف تقنيات القص الحديث بما يتلاءم مع واقع الشخصيات المغتربة، وبأسلوب أبرز وجوه الاغتراب بصورة واضحة ومعبرة، كل ذلك يحمل بدوره حقيقة اغتراب الكاتب في واقعه الذي عاني فيه مع كتاب جيله من غربة سببتها التحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع في مرحلة التحديث، وتحولت إلى خطاب اغترابي في عالم الكتابة القصصية عنده وعند غيره من (جيل الغرباء) كما وصفهم منصور الحازمي.

جدة

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة