Culture Magazine Thursday  09/04/2009 G Issue 278
سرد
الخميس 13 ,ربيع الثاني 1430   العدد  278
مدائن
روايات الحميدان تسكنها المدن وتجافيها الأحلام
إعداد - عبدالحفيظ الشمري

 

يذهب رائد الرواية السعودية الأديب إبراهيم الناصر الحميدان في أعماله الروائية والقصصية دائماً نحو المكان المفعم بالحياة، والزمان المتجذر بالذكريات الدافئة عن أحداث سمت على الجراح، أو كبرت في الذات حتى باتت تتساوق على هيئة شهادة عصرية خالصة تستحق المتابعة والتأمل.

فالمدينة في أعمال الرائد (الحميدان) دائماً ما تكون حاضنة للعديد من القيم الفنية، والأحداث المتواثبة، والرؤى المؤثرة، لنرى دون عناء أنه قد عني ببناء المكان، ونصب خيمة الزمان في أحداث المدن التي تواردت على هيئة إفصاح مستفيض عن ما يدور في المدن من أحداث.

البناء المكاني الرحب له جوهره الحقيقي في أعمال الحميدان الروائية، حيث ينطلق دائماً من رؤية مستشرفة، ليجد أن المدينة هي الحاضن للأمل والفأل على نحو أن يكون المستقبل المعيشي، والتدرج الوظيفي فيها هو الهاجس الفريد، وكأنه يريد أن يقول من خلال هذه الأعمال: من أراد أن يغير نمط حياته فعليه أن يفر نحو المدن.

ففي روايته (دم البراءة) على سبيل المثال يلمح القارئ أنه عني بالمكان المتمثل في المدينة التي يرتحل إليها والد (الطبيب/البطل) في العمل، فهروبه من الريف يراد فيه أن يكون الهاجس المناسب للحكاية الأكثر ملاءمة لعنصر السرد، فسيجد البطل في المدينة متسعاً للرزق، وسيلفي أهل المدن وقد باتوا أكثر حرصاً على بناء ذواتهم، والعناية بمن حولهم، بل أنها صورة مغايرة عن ما درج عليه المفهوم العام من أن المدن النائية قد لا تضيف أي شيء ذا بال.

وربما كان لمهنة الطبيب في الرواية، أو الباحث عن التحصيل العلمي والدراسة، أو الساعي إلى المجد الوظيفي هو الذي صنع من المدينة عنصر جذب، مما حدا بالروائي الحميدان يعنى بالمدينة ويدون عنها كل شاردة وواردة من أجل أن يكتم المعنى.

ولا يتوانى الأديب الحميدان عن ذكر مفاتن المدن التي عاش فيها وترعرع في أرجائها على نحو مدن (نجد) المقيم منها والمغترب.. فهي التي تؤذن له بسيرة جميلة وعفوية تتنامى فيها الرقة، وتكثر فيها البراءات ويغيب عنها الهاجس المادي المؤذي.

المدينة في أعمال أخرى للحميدان قصصية وروائية تنمو مع الأحداث وتتحول مثلها مثل الشخوص والأبطال، لأنه دائماً ما يضع المدينة المكان في مثالية عالية تجافي حالة الريف والقرية التي لا يجد فيها سوى العودة إلى الهدوء والسكينة في وقت يجد فيها الشاب ذاته على نحو تنامي الأحداث في روايته (حيطان الريح) حينما لم يجد الشخوص فرصة للتعبير عن ذواتهم والبحث عن ملجأ جديد سوى في المدن التي أعد الحميدان فضاءاتها بشكل متكامل، وبحرفية تعكس ولعه في تلك الأماكن التي يمكن أن تكون حاضناً لهذا الوعي الذي يسكنهم.

فالهرب من المدن لا يأتي إلا نادراً في أعماله لا سيما حينما يكون الحميدان ممسكاً بفكرة رجل هده العناء، وناصبه الشقاء وبات بحاجة إلى ملاذ آمن يقيم فيه ليتأمل ما مضى كمرحلة التقاعد عند أحدى الشخصيات أو رحلة استجمام وخلوص إلى مجد الراحة من تلك المنغصات العصرية التي تظهر في العمل على هيئة نتائج ممكنة، أو ثمن لما آلات إليها الحياة الجديدة في المدن العصرية التي يشير إليها الحميدان بوصفها حالة من البحث الدائم عن الرزق، أو التفتيش عن الذات من خلال بناء الشخصية العصرية المتكاملة.

المدن في عطاء إبراهيم الناصر الحميدان السردي حري فيها أن تكون نموذجاً خاصاً يمكن لنا من خلاله أن نقيم حالة المكان وتأثيره اجتماعيا ومعرفياً وعلمياً، فقد باتت المدن هي الملهمة للحضارة والخلوص من الريف وعوالم القرى، ومعاناة البسطاء الذين يبحثون عن اللقمة في أي مكان مما جعل الوجود فيها أكثر إيلاماً، وأقوى قسوة.

لا تخلو أي قصة من قصص (نجمة للمساء) على وجه التحديد من هذا التباين بين مشاعر من يبحث عن ذاته ومجد مستقبله، أو من يريد أن يرتزق، ويبحث عن اللقمة البسيطة، ليستدرج لنا الحميدان بوعي المثقف، وتجربة المفكر، وعطاء الأديب أن الشخصية لا تصنعها المدن إنما هي حتمية لمن أراد أن يكون ذاته، ويتداوى من جراحات الريف الذي قد يكون أضيق من أن يستوعب طاقات أي شاب أو شابة يبحث عن مجد عطائه، ليحقق ما يرمي إليه.

بين المدن والحميدان رابط عقلي قوي لا يمكن لنا أن نتجاوزه بشكل عابر إنما هي قضية هامة، تمثل الماضي الذي انطلق منه، والحاضر الذي يعيشه، والمستقبل الذي يرنو إليه في عطائه حينما يضيء لنا في أعماله القصصية والروائية هذا الوجود العقلي النابه فلا مشاحة عند الحميدان وفي لحظة تنوير خالص أن يفر نحو المدن البعيدة بحث عن ألق سكينة أو هدوء، لكن القرى والريف في وجدان وعقول أبطال أعماله السردية لا أمل في عودتهم إليها حتى وأن تحولت إلى ما يشبه المدن.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة