Culture Magazine Thursday  09/07/2009 G Issue 291
فضاءات
الخميس 16 ,رجب 1430   العدد  291
أعراف
الشجر (1)
محمد جبر الحربي

 

تتفنن الأشجار في اختيار سوقها وأغصانها وألوانها لتتماشى مع الفصول والأمكنة، ومع التضاريس والجغرافيا بشكل يفوق الخيال.

وهي حكيمة تنحني مع الريح، وكريمة تهب جمالها وظلالها وثمارها وأغصانها بسخاء، ونبيلة تؤمن بالعدالة والمساواة؛ فلا تفرق بين أحد من المخلوقات؛ فتهب الجميع من خيراتها: البشر والحيوانات والطيور والحشرات، وهي - رغم رقتها الغالبة - قد تخشوشن؛ حتى تُدمِي مَن يريدها بسوء.

وقد سمت الشجرة عبر التاريخ؛ فأقسِم بها تيناً وزيتوناً ?وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ?، وتميزت؛ فكانت مباركة لا شرقية ولا غربية ?يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ? النور 35، وتسيدت باختيار إلهي؛ فكانت سدرة المنتهى ?عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى? النجم 14-16، وعلت؛ فكانت طيبة ثابتة باسقة كالنخلة لتكون مثالاً للمؤمن في توحيده ?أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء? إبراهيم 24-26، ووعداً إلهياً وجزاءً للمؤمنين: فاكهة مما يشتهون كالعنب والرمان ضمن جنات النعيم.. كما كانت وعيداً ومثالاً منفراً كشجرة الزقوم ?وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ?، وهي في الآخرة خبيثة مخيفة تبعث على الفزع ?إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ? الصافات 64-65.

والشجر كالبشر في المظهر والمخبر، وفي التشابه والاختلاف ?وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ? الأنعام 141.

وتتجلى عبقرية الشجر في عملية التمثيل الضوئي وهي عملية احتراق، وفي احتراق بعضه الفعلي حتى وهو مزدان بخضرته؛ إذ يمنح الآخرين الدفء والحياة، وذلك من عظمة الخالق ?الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ?، وثبت أنها عملية كيميائية معقدة تسمح للشجر بتخزين الطاقة القابلة للاشتعال.

ويتشابك الشجر؛ فلا يؤذي، وإنما يصبح غابةً وجنةً، ويشتجر الناس فيقتل بعضهم بعضاً، ويتشابكون بالأسلحة؛ فتشتعل الحروب التي تأكل الأخضر واليابس، ومن أكثر الحروب شراسةً وقسوةً تلك التي يشنها الإنسان، بشراهته وأنانيته وكفره بالنعم، على الأشجار والغابات، وهي مصدر الهواء الذي يتنفسه؛ حتى طغت اليابسة الجرداء بشكل مروع على المساحات الخضراء، مع أن هذا الإنسان حين أراد تدوين تاريخه ونسبه اصطنع له شجرةً للنسب!!

والشجرة هي كل ما قام على ساق من النبات، وسيقانها مكشوفة واضحة للعيان، ورؤيتها على كثرة مطلب وبشائر خير ونعمة، أما الإنسان إن كشف عن ساقه؛ فدليل على أمر عظيم، ومصاب جلل، والحرب تقوم على ساق إذا اشتدت.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5182» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض mjharbi@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة