Culture Magazine Thursday  09/07/2009 G Issue 291
قراءات
الخميس 16 ,رجب 1430   العدد  291
تعقيبات على نقد السيد صقر لتحقيق أحمد شاكر لكتاب (الشعر والشعراء) - الجزء الأخير
فيصل المنصور

 

5- قال السيد صقر (1-23):

(واستنَّ فوق الحذارى القُلقُلان كما

شكلُ الشُّنوف يُحاكى بالهيانيمِ

... وإذا كانت (ما) زائدة كما قال الأستاذ، فلماذا ضبطَ (شكل) بضم اللام ؟ والصواب: (كما شكلِ) بكسر اللام) ا. هـ.

قلتُ:

لم يفهم السيد صقر معنى الزيادة عند النحاة؛ فأنكر على الشيخ شاكر أن يضبطَ (شكل) بالضمِّ، معَ ادِّعائه زيادتَها؛ كأنه يظنُّ أن الزائِدَ لا يكفُّ عن العملِ. وليس الأمر كذلك؛ فإن (ما) قد تأتي بعد الكافِ؛ فتكون زائدةً في المعنَى، غيرَ كافَّةٍ عن العمل؛ ومنه قول الشاعرِ:

وننصر مولانا، ونعلم أنه

كما الناسِ مجرومٌ عليه وجارمُ

وقد تأتي بعد الكافِ؛ فتكون زائدةً في المعنَى، كافَّةً عن العملِ، ومهيئةً حرفَ الجرِّ للدخول على الجمل الاسمية، أو الفعلية بعدَها؛ ومنه قول الشاعرِ:

أخٌ ماجِدٌ لم يخزني يومَ مشهدٍ

كما سيفُ عمرو لم تخنه مضاربُهْ

فالزيادةُ غيرُ الكفِّ، وهي لا تقتضيه، كما لا تدفعُه، لأن الزيادةَ تتعلقُ بالمعنَى، والكفّ يتعلق بالعمل.

6- قال السيد صقر (ا-27):

(ودكين هو القائل:

وإن هو لم يُضْرِعْ عن اللؤمِ نفسَه

فليس إلى حسن الثناء سبيل

قال الشيخ في شرحه: (أصلُ الضَّرَعِ -بفتح الراء- الذل والتخشع؛ يقال: ضرع له، وإليه: استكان، وخشعَ؛ فالمراد هنا: إن لم يمنع نفسه عن اللؤم، ويغلبها) قلتُ (القائل السيد صقر): والصواب: إن هو لم يَضرَح عن اللؤم نفسَه. جاء في اللسان... (الضرح: التنحية. وقد ضرحَه: أي نحَّاه، ودفعَه) ا. هـ.

قلتُ:

بل الصواب ما ذكرَه الشيخُ شاكر. وأما ما ذكرَه السيد صقر يزعمُ أنه هو الصواب، فمردود من ثلاثة أوجهٍ:

الأول: أنَّ لفظَ (الضَّرْح) لا يصلح في هذا الموضعِ، لأن معناه عندَ التحقيقِ ليس التنحية كما نقلَ؛ إذ التنحية إبعادُ الأشياء الكبيرة الجِرم برفقٍ؛ وإنما (الضَّرْح) إبعادُ الأشياء الصغيرة الجِرم بعنفٍ؛ فاللفظان يشتركان كما ترى في جنسِ (الإبعاد)؛ ولكنهما يفترقانِ في ما وراءَه. يشهدُ لهذا قولُ الشاعرِ:

فلما أن أتين على أُضاخٍ

ضرحْنَ حصاه أشتاتًا عِزِِينا

وقول الفرزدق:

كأنَّ نَجاء أرجلِهنَّ لمَّا

ضرحْنَ المروَ يقتدحُ الشَّرارا

وقولُ صاحب (العينِ) -وقد أبانَ -: (والضَّرْح: الرمي بالشيءِ)؛ فهو إذن بمعنى الرمي، أو الطرحِ ، وليس بمعنى التنحية، والدفعِ. والذي في (اللسان) منقولٌ عن (الصحاح)، ولم يحسن صاحب (الصحاح) الإبانةَ عن المعنَى كما تستعملُه العربُ. ومتى ثبتَ هذا، أوجب لنا العلمَ بأنه لا يقال: (ضرح الإنسان نفسَه عن اللؤم)، كما لا يقال: (رمَى الإنسان نفسَه عن اللؤم) لا من جهة الحقيقة، ولا من جهة المجاز.

الثاني: أنَّا لو صححنا رواية (يضرَح) كما رأى السيد صقر، لكان المعنى: إذا المرء لم يجانب اللؤمَ، لم يستطع أن ينال ثناء الناس عليه. وهذا معنًى قريبٌ باردٌ. وإنما أرادَ الشاعر: أنه إذا لم يهِنِ المرء نفسَه، ويذلَّها، ويصبِّرها عن مقارفة أسباب اللؤمِ، لم يجِد له مثنيًا. وهذا معنًى معروفٌ عندَ العربِ، منه قولُ الخنساء:

نهينُ النفوسَ، وهونُ النفو

سِ يومَ الكريهة أبقى لها

وقولُ الآخرِ:

أهينُ لهم نفسي لأكرمَها بهم

ولن تكرم النفس التي لا تهينها

وقد أخذ دكينٌ بيتَه من قول السموءل، أو عبد الملك الحارثي:

وإن هو لم يحمل على النفس ضيمَها

فليس إلى حسن الثناء سبيلُ

وضيمُ النفس، وإهانتها متقاربان. وفي هذا مرجِّح لرواية (يُضرِع).

الثالث: أنَّ أبا بكر الدينوريّ (ت 333 هـ) روى هذا البيتَ في (المجالسة وجواهر العلم 4-316) برواية (يُضرِع). ويظاهرُه أيضًا ما رواه ابن قتيبة نفسُه في (عيون الأخبار 3-59)؛ فإنها فيه (يصرع)؛ فلعله وقعَ في الحرفِ تصحيفٌ من النُسَّاخِ. وإنما كان ظهيرًا للرواية التي صححناها، لأنه دال على أن الحرف الأخير لا يخرج عن أن يكون عينًا، أو غينًا؛ ولا سيَّما أن التقارب الذي بينَهما أدنى من التقارب بينهما وبين الحاء؛ على أنه لم يروِ هذا اللفظَ بالحاءِ أحدٌ من العلماء في ما أعلمُ؛ وإنما هو اجتهاد من السيد صقر رحمه الله.

وتفسير الشيخ شاكر ل (أضرع) ليس مستقيمًا كلَّ الاستقامة؛ فإنه ذكر أن (الضَّرع) الاستكانة، والخشوع، ثم عدل عن هذا في التفسير؛ فقال: (فالمراد هنا: إن لم يمنع نفسَه عن اللؤم، ويغلبها). والصواب: (إن لم يُذِلَّ نفسَه، عن اللؤم) أي: (مباعدًا لها عن اللؤم) كما تقدَّم. ويصدِّق ذلك قول العرب في المثل: (الحمَّى أضرعتني لك)؛ أي: أذلّتني لك.

فهذه بعضُ الت عقيبات على بعض نقَداتِه آثرتُ أن أذكرَها، يدفعُني إلى ذلك ما قاله السيد صقر رحمه الله: (وإني على نهجي الذي انتهجتُ منذ أول كتابٍ نشرتُ، أدعو النُقَّادَ إلى إظهاري على أوهامي فيها، وتبيين ما دقَّ عن فهمي من معانيها، أو ندَّ عن نظري من مبانيها، وفاءً بحقِّ العلم عليهم، وأداءً لحقّ النصيحة فيه).

والسيد صقر محقِّقٌ ثبت، وقارئٌ ناقدٌ؛ فإن يكن أخطأ، فقد أخطأ مَن هو أعلمُ منه، وإن أكن أصبتُ، فقد أصابَ من هو أجهلُ منِّي؛ وإن كنتُ لا أدعي لنفسي الصوابَ في جميع ما ذكرتُ. وهذه القضايا التي نخوضُ فيها ليست مِلكًا له، ولا لي؛ وإنما هي مِلكٌ للأمّة كلِّها، لكلِّ فردٍ من الحقِّ فيها مثلُ ما للآخَرِ.

وهنا أجدني محتاجًا إلى تقريرِ أصلينِ لا بدَّ منهما، إليهما يئولُ جميعُ ما ذكرتُ:

الأصلُ الأوَّل:

إذا اختلفت رواياتُ النسَخِ، فأيَّها يختار المحقِّقُ ؟

أيختارُ رواية النسخة التي يثِقُ بها ؟ وأقصِد الثقةَ التي أوجبَها له ما يُحتكَم إليه في مجال التحقيق من معاييرَ علمية صحيحة.

أم يختارُ الرِّواية التي يستحسنُها ذوقُه، والتي ألِفَها، واعتادَ قراءَتَها في جملة من المصادر ؟

لا ريبَ عندي أنّ عليه أن يختارَ رِواية النسخةِ التي يراها أوثقَ، وأصحَّ؛ وإن خالفت الشائعَ، المألوفَ. وليسَ من حقِّه أن يحكِّم رأيَه في ذلكَ، ولا أن يخرجَ عن الاعتداد بغيرِها إلا إذا كان غيرُها أشبهَ بأسلوب المؤلفِ، وطريقةِ أهل عصره، أو أعرفَ في استعمال الكتَّاب، واصطلاحاتِ الفنونِ.

وذلكَ أنَّ عمَلَ المحقِّق ليس إخراجَ الكِتابِ على أصحِّ ما يراهُ هو؛ أي: ليس عمُله الترجيحَ؛ وإنما عمَلُه أن يخرج الكتاب بالصورة التي أرادها مؤلفُه أيًّا كانت. ولا سبيلَ إلى ذلك عند اختلافِ النسَخِ إلا التعويلُ على أصحِّها في الجملة، وأضبطِها، وأدناها إلى عصر المؤلفِ، من خلال تفحُّصِها، وقراءتها قراءةً دقيقةً، وغيرِ ذلك مما هو معلومٌ لدى المشتغلين بهذا الفنِّ.

ولا يلزَمُ أن تكونَ روايةُ المؤلِّف بعدَ هذا هي الرِّوايةَ التي يراها المحقِّق أصحَّ؛ فقد تكونُ رِواية المؤلفِ رِوايةً مرجوحةً في نظرِه، أو مخالفةً للكثيرِ المعروفِ، ومع ذلك، فلا يسوغُ له أن يختارَ غيرَها، لأن هذا الكتابَ الذي يحقِّقه فوقَ كونِه أمانةً يجِب أداؤُها كما هي، فهو وثيقةٌ، وشاهدٌ على أشياءَ كثيرةٍ، كمذهب المؤلف، وأسلوبه، وعادةِ عصره، وما لا أحصيه؛ فربَّ كلمةٍ يغيِّرها لا يأبه لها هي عند باحثٍ من الباحثينَ ذاتُ شأنٍ، ويمكنُه أن يستنبطَ منها ما يستنبطُ. كما ترَى في احتجاجِ الشيخ أحمد شاكر في (الرسالة) للشافعيِّ ب (معاني) ونحوِها مثبتةَ الياء في الرفع، والجر، على الجوازِ. ولو أجرَى الشيخ منهجَ الترجيحِ، والحملِ على الشائع المعروفِ، لغيَّر هذه الكلمةَ، وحذفَ الياءَ؛ فكانت تضيع علينا من جرَّاء ذلك هذه الفائدة اللغوية النادرة -وإن كنتُ أخالفُه في الاحتجاج بها لأمور أخرَى-.

ثمَّ إنَّ عِلْم الإنسانِ -وإنْ اجتهدَ- محدود، واطِّلاعه -وإن حاولَ- ضيِّق، ونظرهُ -وإن امتدَّ- قاصِرٌ؛ فلعلّ ما اعتدَّه خطأً، ثم أبطلَه، يكون هو الصوابَ، ولعلَّ ما رآه ضعيفًا، فاستبعدَه، يكونُ هو الرِّوايةَ التي اختارَها المصنِّف. وهذا المنهجُ -أعني منهجَ الإلحاد في التحقيق- حقيقٌ إن نحن أخذنا به أن يقضي على فريقٍ كبيرٍ من نوادر التراثِ، ودقائقِه، وأن يجعلَ كتبَه على صورةٍ واحدةٍ قد يتبيَّن من بعدُ لبعض الباحثينَ أنها غيرُ صحيحةٍ، وأنَّ ما غيَّره المحقِّقون هو الصوابُ.

وأنا أذكرُ مثالينِ لهذا الإقدامِ على التغييرِ:

1- في (شرح القصائد السبع 23) لأبي بكر الأنباريِّ تصرَف الأستاذ عبد السلام هارون في المتنِ اعتمادًا على فهمِه؛ فأفسدَ المعنَى، وقلبَه؛ حيث قال المصنف: (وقال: الأعراب يروون فيها)؛ فغيرَّها إلى (يروونه) غيرَ ملتفتٍ إلى النسختين المخطوطتين. وشتان ما هما؛ فعلى الوجه الأول يكون المرادُ بهذا هو البيت الآتي، وعلى الوجه الثاني يكون المرادُ بهذا هو البيت السابق. ويدلك على ذلك فوقَ دلالة هاتين النسختين ما في شرحِ المعلقات لأبي جعفر النحاس، والخطيب التبريزيِّ. وكانَ الحقَّ أن يترَك ما في النسختين كما هو، ويشير إلى رأيِه في الحاشية، كما قال هو في (تحقيق النصوص ونشرها 48): (فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوبًا هو أعلى منه، أو نُحِلّ كلمة صحيحة محلّ أخرى صحيحة بدعوى أن أولاهما أولى بمكانها، أو أجمل، وأوفق.. وقد يقال: كيف نترك ذلك الخطأ يشيع ؟ وكيف نعالجه ؟ فالجواب أن المحقِّق إن فطِن إلى شيء من ذلك الخطأ، نبّه عليه في الحاشية، أو في آخر الكتاب، وبيَّن وجه الصواب فيه. وبذلك يحقق الأمانة، ويؤدي واجب العلم).

2-في (غريب الحديث 1-120) لإبراهيم الحربيِّ تصرفَ الناشرُ في روايةِ بيت امرئ القيس:

بصبحٍ، وما الإصباح فيك بأمثلِ

فجعلَه (منك)، وذكر في الحاشية أن الأصل (فيك).

معَ أن رواية (فيك) رواها جملةٌ من العلماء، كالسكري، والأنباري، والشنتمريِّ.

الأصلُ الثاني:

أن الروايات قد تتعدَّد؛ فلا يوجِب ذلك القدحَ فيها، وإبطالَها؛ وإنما تكونُ كلُّها صحيحةً، مقبولةً ما دامَ قد رواها العلماءُ الثقاتُ الذين كانوا في زمنِ الروايةِ، وكانَ لها وجهٌ سائغٌ يجوز حملُها عليهِ. فإن عرض لامرئ رأيٌ في شيءٍ منها يقضي بالتخطئة، فلا بدَّ له من أن يورِد برهانَه، ويقدِّم حجَّتَه؛ وإلا كانَ كلامُه مطَّرحًا غيرَ مقبولٍ كائنًا من كانَ. وإن كانَ لديه ما يرجِّح روايةً على روايةٍ لأسبابٍ من النظرِ تبدو له، فإنما حسبُه أن يقولَ: هذه الرواية أرجحُ من تلك، ويذكر أسبابَه. فأما تخطئتها، فمن الجرأة على العلمِ. وإن كنتُ أعذِر السيِّد صقرًا بأنَّه لم يطَّلع على الروايات الأخرَى في مواضعها. أقول هذا لعلمي بأنه كانَ أجلَّ من أن يخطِّئ شيئًا صحيحًا ثابتًا، لما ذاعَ من فضلهِ، وعلمِه، وغيرته على التراثِ، جزاه الله على ذلك خيرًا. ولكنِّني أعجبُ ممن يركب المستحيلَ، كي يبرِّئه من كلِّ ما يُتعقّب به عليه، أو على غيره، ويجعل لكلِّ تصرّف يعملُه حكمةً ومعنًى، ولكلِّ خطوةٍ يخطوها غرضًا ومقصدًا؛ فيكون أدرى بالسيد صقر من نفسِه حين دعا النقَّاد إلى أن يظهروه على أوهامه، ويُبدوا عن ملاحظاتهِم في تحقيقاتِه؛ ولكنَّ للاسم سلطانًا على القارئ يأخذ بحُجَز عقلِه عن الحقِّ، واتباعِه، وعن النظر في الأمور بالقسط. ورحمَ الله الرافعيَّ إذ يقول: (ثم رأيت بعد أن عزمَ الله لي كتابة هذا المقال أن أتركه بغير توقيع؛ وإن كنت أعلم أن أكثر من يقرءونه كذلك، سيخرجون من خاتمته كما لو كانوا أميين لم يقرءوا فاتحته؛ فإن الحكمة كلّها، والمعرفة بجميع طبقاتها، أصبحت في أحرف الأسماء؛ فإن قيل: كتاب لفلان... قلنا: أين يباع ؟ وإن كان من سقَط المتاع).

faysalmansour@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة