Culture Magazine Thursday  09/07/2009 G Issue 291
سرد
الخميس 16 ,رجب 1430   العدد  291
مدائن
بين طبريا والناصرة يفقد ناجي العلي حنظلة

 

إعداد - عبدالحفيظ الشمري:

لا شيء غير الحزن يبقى في ذكرى رحيل فنان الكاريكاتير الفلسطيني الرائع ناجي العلي.. ذلك الرجل الذي أوقف عمره عند العاشرة، فصنع من مجد فنه وريشته وقلمه شخصية (حنظلة) المعبرة رغم تناهي صغرها، وتواضع مكانتها، فقد عني في تفاصيلها، وبرع في تقديمها للقارئ العربي في كل مكان، ليحدد نموذج الإنسان المطحون، والمقهور في حياتنا العربية التي باتت تستعصي على الحلول.

ناجي العلي.. الفنان الكبير بفنه، وعطائه، وصلابة مواقفه، وجد في شخصية (حنظلة) عزاءه وبقاء تجربته حتى وإن توارى في سديميات الغياب الذي كان يتوقعه لحياته، ولرحلة معاناته منذ البداية، وحتى أن خرَّ صريعاً على أرصفة الغربة.

تاه الفنان ناجي العلي بين مدائن ودول كثيرة؛ مغترباً، ومشرداً، وباحثا عن عمل يدر اليسير من القوت لعائلته.. فلم يبقى في خلاصة تجربته من المدن إلا طبريا والناصرة في فلسطين المحتلة، ومن البشر غاب الجميع ليصور لنا شخصية تتسم بالواقعية والبقاء والخلود، فجاءت حالة (حنظلة) التراجيدية، وتوهجت شخصية (فاطمة) المعبرة.. تلك التي ظلت تبكي وتضحك، وتدفع بحنظلتها أن يسعى إلى مزيد من المواقف المتشددة في نقده للواقع الذي يزداد هوسا وجنوناً.

أكثر من أربعين ألف لوحة كاريكاتورية معبرة رسمها الفنان ناجي العلي.. جميعها تتحدث عن الوطن، وتصف معاناته من خلال الواقع الأليم الذي يصم العالم أذنيه عن صوته، ويغمض عينيه عن مناظر المجازر والدمار فيه، بل يغلق أنفه بمحرمة عصرية عن رائحة الدم والبارود الذي لا يميز بين طفل وطير وحيوان، فالجميع داخل فلسطين على لسان (حنظلة) مستهدف، وواقع تحت طائلة التصفية الجسدية الأليمة.

في المدن المنفى (لندن، والكويت، وعمان) ظل ناجي العلي يشحذ همة (حنظلة) لكي يبقى وفياً لحزن أهله، ولقضية وطنه حتى وإن فقد كل شيء في الحياة، بل نراه وقد ابتدع من خلال ريشته الفذة بنت الناصر.. (فاطمة) تلك اليافعة التي ظلت تدمع عيانها لفرط قسوة الزمن على أهلها، ولتهالك من حولها فكانت خطوط ناجي هي الجديرة في البقاء رغم أنه شعر بأن هناك من يرتب ميتته في تلك المدن أو خارجها.

عني الفنان الفذ بالمدينة الحلم.. تلك التي تهدمت، وباتت أثراً بعد عين.. فهو الذي ظل يعالج حالة الفقد للوطن بعزاء الحلم بالعودة إلى منابته الأولى، لينشغل في تفكيك اللبس.. فأيهما الذي جاء أولاً.. أهو الحب أم الفقد؟! في وقت لم يجد من المدن من تؤويه إلا تلك المدينة التي تفتح أحد سجونها لاستقباله، فلا يجد سوى جدران الزنازين لكي يمارس من خلالها فنه الراقي.

وكأنه يستشعر قرب نهايته، شرع في ترتيبات شخصية (حنظلة) التي تتوسط جل أعماله، فقد وجد في هذه الشخصية للطفل ذا الأعوام العشر، وبتلك الهيئة الرثة ذاته، فهو الطفل الذي خرج فيها من مدينته الناصرة مروراً بطبريا نحو منافي أخرى، فلم يجد بدا من أن يصوغ من خلال شخصيته ذلك الهاجس الإنساني المؤثر والفاعل في حياتنا التي بتنا فيها على الحياد.

حينما رحل ناجي العلي عن الدنيا ترك في تابوت ذكرياته حزن (حنظلة) على فقده، وعينا (فاطمة) وهما يزدادان تدامعاً لفرط ألم يسكن القلب من نهاية ناجي على أرصفة الغربة حينما قيل له: أصمت.. القبح يا أبا حنظلة يريد أن يتحدث فلم يشأ أن يصمت ابن الناصرة، فكان لابد له إلا أن يتحدث، فكان كاتم الصوت أسرع إلى عينه اليمنى ليقتلعها إيذانا بحلول صمت طويل سيحل على المدن التي لا تزال تبحث عن خلاصها.


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة