Culture Magazine Thursday  12/03/2009 G Issue 274
الملف
الخميس 15 ,ربيع الاول 1430   العدد  274
الاستثناء .. الجزء الأخير
العصفورية .. النص المشكل
د. محمد الباردي

 

خصص العدد الماضي(السنوي) من الثقافية تكريماً لعطاءات الدكتور غازي القصيبي وفي هذا العدد بقية نستكملها

***

عندما ينظر القارئ المختصُّ في هذا النصِّ الذي أصدره غازي عبد الرحمن القصيبي عام ألف وتسعمائة وست وتسعين، عن دار السَّاقي ويحمل عنوان العصفوريَّة، يجد نفسه للوهلة الأولى إزاء نصٍّ صامت لا يقدِّم له أيَّ إفادة أولية تساعده على مواجهة الإشكاليَّات الكثيرة التي يطرحها عليه عندما يتقدَّم في القراءة. فالغلاف الخارجيُّ باستثناء اللَّوحة الجميلة التي يحملها والعنوان واسم المؤلِّف وصورته واسم الدَّار التي صدر فيها الكتاب لا يقدِّم لنا أيَّ معلومة تعرِّف بطبيعة الكتاب وبجنسه الأدبي الذي ينتمي إليه. ولكنَّنا مع هذا الكتاب نحن إزاء ظاهرة مختلفة تماماً. فلا الكاتب ولا النَّاشر أقدم على التعريف بالمنشور وبطبيعته الأدبيَّة. فالعصفوريَّة عنوان متعدِّد الدلالات. فهو يوحي بأن يكون بحثاً في علم النفس أو في علم الاجتماع أو بحثاً في الطبِّ. فكأنَّ الكاتب لا يريد أن يلزم نفسه بأيِّ عقد أو أيِّ ميثاق. ولا شكَّ أنَّ المؤلِّف غازي عبد الرحمن القصيبي على وعي بهذه المسألة، إذ يقدِّم شكلاً من أشكال الكتابة لا ينشغل بهويَّته الأجناسيَّة. ولكنَّ الهويَّة الأجناسيَّة هي هوس النَّافد والباحث. فلا يمكن أن نقرأ كتاباً لمجرَّد أنَّه كتاب. ذلك أنَّ مسألة التَّصنيف تظلُّ دائماً مسألة أساسيَّة، إذ تسمح لنا بأن نرتِّب النصَّ الذي نقره ونضعه في خانة من الخانات. قد يحرج هذا الأمر الكاتب المبدع الذي يرفض أن يصنَّف وأن يُوضع في هذه الخانة أو تلك، ولكنَّه يرضي الباحث النَّاقد. وفي الحقيقة عندما قرأت هذا النصَّ مؤخراً سعدت لأنِّي لم أر شبهاً له قي الثَّقافة العربيَّة المعاصرة، في حين أعرف نصوصاً تشبهه في الثقافة الأوروبية. إنَّ كاتب العصفوريَّة يمارس ضرباً من الكتابات الشَّائعة في الأدب الأوروبي. والكتاب حوار طويل بين رجلين هما البروفيسور وهو مثقَّف من مثقَّفي عربستان كناية عن بلاد العرب وبالذَّات من خليجستان، والدكتور سمير ثابت وهو طبيب مختصٌّ في الأمراض النَّفسيَّة في مستشفى العصفوريَّة في مدينة بيروت. يبدأ النصُّ بمقدِّمة قصيرة وهي مقدِّمة حواريَّة، يظهر فيها البروفيسور وهو ينادي الممرّض في القسم ويسأل عن الطَّبيب سمير ثابت الذي زاغ عن مريضه من دون أن يفطن إليه. وينتهي بخاتمة تحمل عنوان (مخرج) وهي تعلن عن اختفاء البروقيسور هذه المرَّة، من خلال حوار بين الدكتور ثابت والممرِّض داته وهو اختفاء عجيب إذ إنَّ البروفيسور رحل إلى عالم الجنّ وإلى كوكب الفضاء. ويقترن الاختفاء بحدوث انقلاب جديد في عربستان. وينتهي النصُّ بهذه العبارة على لسان الطّبيب المعالج (ضيعناك يا بروفيسور.. واللّه ضيعناك يا بروفيسور).

ثمَّة في هذا النصِّ مداران حكائيان. يتعلّق المدار الحكائي الأوَّل بشخصيَّة البروفيسور، إذ يروي البروفيسور ما يشبه الحكاية الشخصية المتعلِّقة بحياته، عندما كان طالباً يدرس في إحدى الجامعات الأمريكيَّة، ثمَّ تعرَّف على فتاة أمريكيَّة جميلة عاش معها قصَّة حبٍّ وهو الخليج عربستاني إلى درجة أنَّها غيَّرت له اسمه، فأضحى يسمَّى منذ تلك القصَّة الغراميَّة بالبروفيسور. ولكنَّه بعد تلك القصَّة الغراميَّة العنيفة يكتشف فجأة أنَّه كان يعيش مع يهوديَّة جميلة، فتنتابه أزمة نفسيَّة حادَّة تؤدِّي به إلى مستشفى الأمراض النَّفسيَّة أو العقليَّة. ذلك أنَّ بشَّار الغول وهو الاسم الحقيقي للبروفيسور يكتشف ذات مرَّة نجمة داوود على جيد الحبيبة الجميلة مطرَّزة بألماس، فيفقد أعصابه ويستعمل ما يملك من عنف انتقاماً لشرف العربستاني المهان (انظر الصَّفحة الرَّابعة والسَّبعين من الرِّواية)، ولكنَّ انهياره العصبيَّ يؤدي به إلى مستشفى الأمراض العقليَّة، فيصف تجربته مع العلاج وقصَّته مع الطَّبيب المعالج ومع قاضي المدينة قبل أن يسمح له بالخروج، ثمَّ يعلم أنَّ المرأة التي أحبَّها ماتت بسبب حادث وكانت حاملاً. وينتقل البروفيسور من حكاية إلى حكاية أخرى إلى أن يصل إلى علاقته بأحد حكَّام عربستان، وقد كان من أصدقائه وهو حاكم عربستان ثمان وأربعين، وقد كان من قبل قد موَّل له انقلاباً ليستحوذ على السُّلطة، وكان يدعى صلاح الدِّين منصور (انظر الكتاب، الصفحة المائتين). ولكنَّه عندما يدعوه إلى إمارته ويصارحه بمظاهر الفساد التي رآها يدخله السِّجن وفي السِّجن يلتقي أحد معارفه من المناضلين ويدعى برهان سرور (انظر صفحتي مائتين وتسعة ومائتين وعشرة). وعلى هذا النَّحو يمضي البروفيسور بشَّار الغولفي سرد حكاياته الخاصة إلى أن يصل إلى مستشفى العصفوريَّة في بيروت ليقبع أمام هذا الطَّبيب المتخصِّص سمير ثابت فيكاشفه هذه المكاشفة الطبِّية.

أمَّا المدار الحكائي الثَّاني في هذا النصّ السّردي فهو يتعلَّق بهذه الشَّحصيات الأدبيَّة والفنية والثَّقافيَّة والسِّياسيَّة التي يستدعيها بشَّار الغول في ساعات مكاشفته. وهي شخصيات من التَّاريخ القديم والتَّاريخ الحديث. يستدعي المتنبِّئ وطه حسين وجويس وشكسبير وكافكا ورسالة الغفران وكتاب المستطرف في كلِّ فنٍّ مستظرف وفرويد وابن سيرين والقائمة تطول. ولكنَّ كلَّ هؤلاء الأدباء والعلماء والسِّياسيين يستدعون على سبيل الاستطراد. فالحكاية تذكر الحكاية والاسم يجلب اسماً جديداً. وهكذا دواليك إلى نهاية هذا النص الطَّويل، وما العجب في ذلك إذا كان صاحبنا بشَّار الغول رجلاً مريضاً وأحد مريدي العصفوريَّة ويجلس أمام طبيبه الذي يثيره بالأسئلة والتعاليق ليجعله يفرغ ما في جعبته حتّى يعيده إلى الحياة الطَّبيعيَّة، ولكنَّه لن يفلح في ذلك لأنَّ الرَّجل اختفى اختفاء عجيباً في نهاية النصِّ. إنَّ هذه البنية السَّرديَّة تبرِّر ذاتها بذاتها. وفي الحقيقة فإنَّ هذا المدار الحكائيّ يكشف عن ثقافة واسعة للمؤلِّف. وسيدرك القارئ أنَّ هذه المواقف النقدية التي اتخذها المؤلِّف وهي مواقف أدبيَّة وثقافية وسياسيَّة ذات طبيعة إشكاليَّة لا تخلو من أهمية. ويصرِّح المؤلِّف في هذا السِّياق أحياناً بأنَّ شخصياته الأدبيَّة والثقافيَّة شخصيات ذات طبيعة إشكاليَّة، لكنَّه يكتفي بالتَّلميح والغمز واللمز إذا ما تعلَّق الأمر بشخصيات ثقافيَّة أو سياسيَّة معروفة. إذ يختلف النَّاس في تقويمها والحكم عليها. وهو أحياناً كثيرة يبني مواقفه معتمداً أسلوب الكناية، ولست أدري هل تكون الكناية صريحة دائماً. فهذا الحاكم بأمره من عربستان ثمان وأربعين الذي يبني القصور ويتحكَّم في رقاب البلاد والعباد والذي يقول فيه النَّاس (إنَّ الضبَّاط أصبحوا الطَّبقة المستغلَّة الجديدة، ويقول النَّاس إنَّ الأموال المصادرة وضعت تحت تصرُّف هذه الطَّبقة الجديدة، ويقول النَّاس إنَّ الخطَّة الخمسيَّة زادت الغنيَّ غنى وزادت الفقير فقراً. ويقول النَّاس إنَّ الدِّيمقراطيَّة مجرَّد تمثيليَّة وإنّ الضبَّاط يملؤون المجلس الأوَّل وأقاربهم يملؤون المجلس الثَّاني)، ولكنَّه لا يسمع النُّصح. هذا الحاكم بأمره يسمِّيه البروفيسور صلاح الدِّين المنصور والاسم بطرفيه غنيٌّ عن التَّعليق. ولكن من هو صلاح الدِّين المنصور؟ على القارئ أن يتخيَّل هذه الشَّخصيَّة. وهذا يعني أنَّ المؤلِّف توسَّل في كثير من الموافق أسلوب التَّكنيَّة هذا لأنَّه لا يريد أن يصرِّح أو ما كان يمكن له أن يصرِّح بهذه المواقف والأسماء، فهو في النِّهاية يكتب أدباً، ومهما كانت الأسباب والمبرِّرات فإنَّ للأدب طريقته في العرض والتَّحليل.

في هذا الكتاب (العصفوريَّة) للدكتور غازي عبد الرحمن القصيبي بأسلوبه الساخر وهو أسلوب قائم أساساً على المفارقة. ولذلك فنحن نعتبره مؤسِّساً لهذا النَّمط من الكتابة الذي يجمع فيه بين خطابات شتَّى، فكتابه نقد أدبيّ ونقد اجتماعيّ وثقافيّ وقد يتحوَّل أحياناً إلى ما شبه الهجائيَّة السِّياسيَّة، وهو أحياناً بورتريهات لشخصيات أدبيَّة وثقافيَّة معروفة يرسمها المؤلِّف على لسان شخصيته بشَّار الغول وهو يلتقط بعض الصِّفات أو المواقف المثيرة ولكنّ الإشكال المركزيّ الذي يثيره هذا الكتاب يتعلَّق بنوعه الأدبيّ. فالنصّ كما أسلفنا خوار طويل مسترسل يبدأ بمقدمة تمهيديَّة وينتهي بخاتمة تضع حدّاً لهذا الحوار الطّويل ولذلك يمكن أن يعتبره بعضهم نصَّاً مسرحيَّاً وفي الحقيقة يمكن أن يستفاد من هذا النصّ استفادة دراميَّة على طريقة المسرح التَّجريبي، ومع ذلك فأنا أعتبره عملاً روائيّاً بامتياز. فقد قرأت في الأدب العالمي روايات توظِّف أسلوباً مشابهاً. أي تقوم أساساً على الحوار بين شخصيَّتين وعبر الحوار تنشأ حكاية معقَّدة ومتشعِّبة بأحداثها. لا شكّ أنَّنا في هذا النصّ الذي كتبه غازي عبد الرحمن القصيبي إزاء رواية لا تقدّم حكاية تقليديَّة تترابط أحداثها وتتشعّب ولكنَّها تقوم على حكايات كثيرة يرويها البروفيسور وتقوم أساساً على الاستطراد، وهو استطراد مبرَّر تبريراً نفسيَّاً لأنَّ رجلاً مريضاً مرضاً نفسيَّاً يحكي وبالتَّالي لا يمكن أن نحاسبه على استطراداته وانقطاعاته. ولكن هذه الرِّواية ليست رواية تقليديَّة شأن الرِّوايات التي نكتبها هذه الأيَّام. إنَّها نوع من الكتابة الرّوائيَّة، تعتمد المعارضة السّاخرة وتتوسَّل أسلوب التَّهكُّم حيث تتضخَّم الشَّخصيَّة السَّاردة ويصبح التَّلفُّظ في حدّ ذاته معنى ودلالة.

تونس

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة